تعتبر رواية «ذكريات ضالة» للروائي الكويتي عبد الله البصيّص الصادرة عن المركز الثقافي العربي في 224 صفحة من الحجم المتوسط، من الروايات القلائل التي تلامس الهم الاجتماعي السياسي في دول الخليج، وتسلط الضوء على بشاعة الإنسان تجاه أخيه الإنسان بعد ما يُعرف اصطلاحا بثقافة «الطفرة النفطية» التي عمّت من الهوة الاجتماعية بين الطبقات في المنطقة. # معضلات المجتمع من يفرغ من قراءة هذا العمل يجد بأن الاسم قد اختير بعناية، إذ يلمح القارئ لها بأنها اشتملت على عدة محاور منها الشعور بمدى الهوة بين الواقع والمأمول، وبمأساة فقدان الوطن وانعدام الأمان بالنسبة لطبقة اجتماعية اسمها «البدون»، وكذلك لعدد من الكويتيين أثناء الغزو العراقي للكويت، وكأن حاله المشاهد السردية في الرواية تشير بأن معضلة «البدون» التصقت في المنفيين خارج الوطن والصامدين فيه،عندما سيطر الغرباء الغزاة على بلادهم، وهذا ما أشار إليه الطفل «سلمان: - بطل الرواية - عندما سأل أمه بكل براءة في أول يوم للغزو» هل نحن الآن «بدون»؟ «وهذا ما أثّر على تداعيات الذكريات، إذ اضمحلت بسرعة أثناء أشهر الغزو السبعة للكويت، حينما نزحت العائلة للدمام مع من نزح من الكويتيين خارج بلادهم، وكأن البطل يشير بأنها هذه ذكريات الكويت وخاصة بالكويتيين، ولابد أن تكون في الكويت، إذ عادت الذكريات تتساقط من عوالمها المجهولة» مع أولى زغاريد التحرير، عدنا إلى البيت، وكنت متلهفاً لألقي هذا العبء الذي ترزح تحته روحي، لأرى مشية حميد الواثقة من جديد، لأسأله عما حدث في ذلك اليوم.». حقيقة، وهذا شعور لا أستطيع كتمانه،وأجد من الضرورة بمكان التصريح به، وهو أنني شخت وكبرت واحدودب ظهري وأنا أتجول بين السطور والمشاهد شاعراً بهشاشة الحياة وتفاهة الزمن،لاسيما وأن«ذكريات ضالة» تتطرق لعدد من المسائل المفصلية في المجتمع الكويتي: قضية«البدون»وكارثة الغزو العراقي والتمايز بين الطبقات الاجتماعية، لقد عكست هذه الرواية ما يعانيه بعض شرائح المجتمع الكويتي من الإحساس بالظلم والغبن والقهر والحرمان من أن يكون إنسانًا أمام نفسه وأمام الآخرين. إنها بجلاء كشفت عن عنصرية فجّة تتحكم بضمير المجتمع، لكن المبدع الفنان يرى من الواقع ما لا يراه سواه، ويلمس من الحقيقة ما لا يريد الآخرون ملامسته. # الشعر والرواية هنا كان عبد الله البصيص امتدادًا لأي روائي ناجح، وهو كون أكثر الروائيين فيما أعلم شعراء استفادوا من ملكة الشعر في إعادة صيغ الأفكار بشكل شاعري يتجاوز الشعر كونه وزن وقافية ومعنى وفق التعريف العربي القديم للشعر، مستفيدين ما بالشعر من وظائف أخرى كالخيال والملكة والتصوير والتأمل مازجين بعد ذلك بين الشاعرية المحلقة والمقدرة على فلسفة خارطة الحياة الاجتماعية للخروج برؤية واقعية ورؤيا تأملية تمزج بين الشعر والفلسفة لقد ظهرت هذه الشاعرية للبصيص في لغته السردية الشاعرية الماتعة المعجونة بحنين الإنسان للطفولة، وانصهاره بمعاناة الإنسان، والتي منها هذا الموقف السردي على سبيل المثال«فجأة لمعت الذاكرة، اخترق الوعي نظام الزمن، النظام الذي يتقدم للأمام في كل وقت، ولا يرجع للوراء إلا في الذاكرة وبشكل وهمي. انهارت سدود الذكريات، فانهمرت المشاعر تقوّض في طريقها كل ما يمتّ للواقع بصلة. ومن البعيد ارتفع سور مدرستي بمشهد حصة رياضة، وصاح صوت ناصر مدلول يناديني: (مرر الكرة يا أناني).إنها الطفولة حيث تبدأ لعبة الحياة». وهنا نكتشف بأنه لم يقل بأنه الذكريات تتناقل ما بين الأزمنة عبر بوابة الأجيال، لكنه استطاع أن يرسمها لنا بلوحات فنية تتدافع في المشاهد السردية كتدافع الأمواج في البحار في يوم عاصف بالرياح«كنت أتمنى كل مرة في طريق العودة أن يعود الزمن للوراء، أن يتغير اتجاه مرور عواميد الإنارة، حتى أصل لتلك اللحظات التي تشاجرت فيها مع أبناء خالي وأبناء خالاتي لأعتذر، ولأطلب منهم الصفح، لأقول لهم إنني كنت مخطئاً»،ففي هذا الكلام رغم ما به من لغة سردية محلقة، إلا أنها تعكس حس شعري ونبض شاعري، يتجاوز بنا الكلمات والسطور لشيء أبعد من ذلك بكثير. # الروائي ليس مرشداً اجتماعيّاً في ظني أن عبد الله البصيص من خلال تسليط الضوء على خبايا المجتمع الكويتي يريد معالجة الأمراض الكامنة في مجتمعه كانكسار كبرياء«حميد شاكر»الذي كان يتحدث بزهو عن والده المتخرج من الجامعة قسم الفلسفة، لكنه وهو يذكر بأنهم«بدون» يتكور ذلك الصبي لينكمش إلى الداخل ككرة ثلج تتساقط في إناء ساخن، ويتحول ذلك الزهو إلى انكسار وهزيمة، لهذا يسلط البطل الضوء على هذه الحالة دون وصف روشتة علاج أو جلسات وملاحظات وإرشادات كما يفعل المرشدون الاجتماعيون، وإنما يعالج هذه الأمراض من خلال الكتابة عنها، من خلال تسليط الضوء الحارق المشعّ عليها، من أجل كشف الغطاء وتعريض الأوجاع لأشعة الشمس الملتهبة، لكي ينتبه الغافل، ويشعر المعذب بلذة الأمان،واستعداد سواه للتعايش معه، وذلك أن الكتابة هي السبيل الأمثل والأكثر صحية للتعبير عن الفن والأدب، والذي من خلالهما يستطيع المرء أن يحفظ توازنه،ويستطيع الإنسان المحافظة على إنسانيته في زمن أصبحت فيه كرامة الإنسان أرخص البضائع. # تنظيف الذاكرة الجميل في عمل البصيص أنه ليس عودة إلى الماضي السحيق البعيد المتكئ على حكايات الأجداد والجدات، بل هو باختصار بسيط حفر في مخزون الذاكرة الجمعية للناس،لإيقاظ الضمائر على أحداث مر بها الجميع، أو سمعوا بها في أضعف الإيمان إن أفضل طريقة لتنظيف الذاكرة هي إمكانية عرض الذكريات المؤلمة وتركها تعوم على السطح لتتحوّل فيما بعد إلى ما يشبه الزبد، كي تضيع في آخر المطاف، وإلا سيعيش المرء نوبات من الصرع، وأظن بأن الروائي الكويتي عبد الله البصيص قد قدم للمجتمع طوق النجاة للتخلص من هذه الأعباء المجتمعية«تنهمر الذكريات مثل المطر وتنقطع، ومن خلال عملية ربط متوالية منطقية نستطيع أن نملأ الأماكن التي نجدها فارغة، فالتاريخ نفسه -إذا اعتبرناه ذكريات البشرية جمعاء- يقوم على استعمال المنطق إذا وجد نفسه أمام عيب في الذاكرة الكلية للبشر بعدم كفاية التوثيق، لا أحد يمكنه تذكر مرحلة كاملة من حياته بكل تفاصيلها، وبعموم لحظاتها، وبجميع أزمنتها، ما نذكره هو المنعطفات فقط، الوقائع التي أحدثت فينا تغييراً، واستحقت بهذا تقدير الذاكرة»، وهذا ما مكنّ البطل من إحداث هذه الهوّة بين الواقع والواقع،الواقع الخزفي المتصدع والواقع المعاش، بل إلى أبعد من ذلك، حيث كان يتحدث بالتفصيل عن الأطفال في الساحات الترابية، والكلاب والشجارات، وما يجري من شذوذ في الشارع أو في مدارس«كان عالمي المعروف ينتهي عند باب بيتنا، ثم يبدأ بعد ذلك العالم الآخر الذي يولّد لدي رغبة مبكرة للاكتشاف»وكذلك حينما يتوقف عند بعض مسميات أقرانه زمن الطفولة مثل مرزوق العبد - فهد العرج - ممدوح المغربية الذي حمل هذا الاسم من أمه، إضافة إلى شعور البطل بحالة من التشظي عندما كبر وصار من رجال المباحث تجتاح عدد من شرائح رجال الأمن«استغربت لدى رؤيتي كؤوس الخمر تلمع بين أصابعهم، الخمر ممنوع في الكويت ويعاقب عليه القانون، وهؤلاء رقباء القانون ومطبّقوه... ينتهكونه»، مما يشير هذا الوضع لوجود حالة أشبه بالانفصام تغرس أظافرها في الكثير من تفاصيل الحياة«. # كلمة أخيرة كنت أتمنى لو كان فصل» الانهيار «ص 21 – 55، والفصل الأخير» العطف» ص 207 لآخر الرواية عملاً منعزلاً بمفرده، بينما كانت صفحات الرواية الأخرى المرتبطة بعالم الأطفال عملاً آخر، هذا مجرد رأي، وللروائي موقفه الخاص به. من جهة أخرى أرى بأن نهاية الرواية غير متوقعة ودموية، وكأنها نذير خطر، وناقوس يدق بشراسة بفناء قادم، فحينما يتخلى المرء عن إنسانيته تصبح جميع الاحتمالات متاحة، وتكون كل الأبواب مشرعة للخوف واللا أمان والقتل والدم، فمما لا شك فيه بأن هذه النهاية ليست منطقية، وكأنها عملية حرق مراحل، لكن المستفاد منها بأن البطل يريد من هذه النهاية التخلص من كل أوجه الفساد بما فيهم نفسه المشبعة بالخطايا والذنوب. * باحث وكاتب ومؤلف وناقد سعودي
مشاركة :