من أهم جوانب الحياة الاجتماعية والثقافية في الإمارات التحكيم والتقاضي، وكيفية فض النزاع بين الأطراف المتخاصمة بالطريقة العرفية التي تتمثل في عرف وعادات وتقاليد المجتمع. القضاء العرفي مفهوم مركب يشمل مفهومين أساسيين هما: القانون العرفي، والنظام القضائي. ومن ثم يمكن معرفة طبيعة مفهوم القضاء العرفي من خلال استجلاء معنى هذين المفهومين، وفق الباحث التراثي د. راشد رشود. يوضح د. راشد رشود أن القضاة العرفيين كانوا في الماضي من الرجال الذين لهم خبرة واسعة في مجال العمل، ونشاط الغوص و(السفر) أي التجارة الخارجية، وما يرتبط بعلاقات العاملين في هذا المجال وحقوقهم وقواعد التعاقد بين الغواصين وأصحاب السفن، والقواعد التي تحكم عمليات بيع اللؤلؤ، وكذلك الشروط التي بمقتضاها يمكن للغواص أو (السيب) أو أي من المتعاقدين مع صاحب السفينة فسخ عقده أو تحويل مجال عمله من سفينة إلى أخرى أو من بلد لآخر، إضافة إلى القواعد التي تحكم علاقات العمل في مجال (السفر)، وهي رحلات التجارة عبر البحار إلى سواحل إفريقيا أو الهند أو غيرها. والقضاء هو القضاء الشرعي في أغلبه وينظر في قضايا المواريث والحقوق المالية أو الديون والقضايا المتعلقة بالعقارات، إلا أن النشاط الاقتصادي الذي ساد المنطقة من غوص وتجارة ونتيجة للقواعد العرفية التي وُضعت لتنظيم سير العمل في هذه المجالات، ظهر نوع آخر من القضاء في الإمارات وهو القضاء العرفي. ويقول رشود: اتّخذ هذا النوع من القواعد والنظم العرفية المتفق عليها في مجال الغوص كقواعد لحل أي خلاف ينشب بين العاملين في هذا المجال، ويسمى هذا النوع من القضاء (الطريجة) أو (السالفة). ولم تكن هناك مبان خاصة لعقد جلسات المحكمة والفصل في القضايا، وإنما كان القاضي يجلس في بيته، وبالتالي يصبح مقراً يقصده المتخاصمون للفصل بينهم، فضلاً عن أن القاضي المعين من قبل حاكم الإمارة لا يتردد في الفصل في أي قضية أينما عرضت عليه، حتى وإن كان جالساً في مكان غير بيته، خاصة إن كانت القضية بسيطة ولا يستدعي النظر فيها وقتاً طويلاً لمعرفة صاحب الحق. كما أن البت في بحث القضايا والنظر في الشكاوى لم يرتبط بمواعيد محددة يومياً، كما هي الحال بالنسبة لعمل المحاكم حالياً، إذ يستقبل القاضي المتخاصمين صباحاً ومساء وفي أي يوم. ويشير رشود إلى تطور الأمور تدريجياً، حتى ظهر التشريع القانوني في صورته الحديثة، بعد أن كان حصراً على فئة بعينها. ويقول: كان شيخ القبيلة قديماً يعين مجموعة من أمراء المنطقة، وكان لكل منهم صلاحية تنفيذ الحكم، وتنعقد المحكمة في غرفة صغيرة ينظر فيها القاضي في دعوى المتخاصمين. ولأن المجتمع الإماراتي القديم، كان بسيطاً للغاية وعدد السكان محدوداً، أثر ذلك في طبيعة القضايا، وكانت غالباً تتعلق بالمشكلات الأسرية والقضايا الجنائية والخلافات المتعلقة بحرفة الغوص والبحث عن اللؤلؤ. كان هناك نوعان من القضاة في الماضي، الأول هو القاضي الشرعي، الذي يفصل في مختلف القضايا المدنية المتعلقة بالمشكلات الأسرية، ويحيل حاكم الإمارة القضايا إليه للحكم فيها. وبعد استماع القاضي للمتخاصمين، يقضي بحكمه ويسجله في بيان يطلع عليه الحاكم، ويلزم المتخاصمين بتنفيذ نصه. ومن لا يرضى بالحكم يستأنفه، ليتم تحويل القضية إلى قاضٍ آخر في إمارة أخرى. وكان القاضي يفصل بين المتخاصمين، إما في مجلس بيته أو في المسجد أو على قارعة الطريق. أما النوع الثاني من القضاة قديماً، فهو القاضي العرفي، الذي كان يفصل بين المتخاصمين في الخلافات المتعلقة بشؤون البحر. عرف القضاء في الإمارات خلال المئة سنة الماضية، بأنه شبيه بمحاكم الاستئناف القائمة حالياً، حيث كان من حق المتحاكمين قبول أو رفض الحكم الصادر في القضية التي يرفعونها إلى القضاء، إلا أن طريقة معالجة هذه المسألة كانت تتم بصورة مختلفة عما تقوم عليه أوضاع القضاء حالياً. وكانت الاستعانة بعلماء مكة المكرمة والأزهر الشريف لا تقتصر على الفصل في القضايا المستأنفة فقط، وإنما يرجع إليهم القضاة أيضاً في الدعاوى التي يخشون أن يجانبهم الصواب في الحكم فيها، وبالتالي يرجأ إصدار الحكم إلى حين تلقيهم الردود والآراء الفقهية من مكة أو الأزهر. وكان الهدف الأول الذي يسعى إليه القضاة هو إرساء روح العدالة وفق تشريعات غلبتها آنذاك نصوص الشريعة الإسلامية، وإقامة حدود الله في أرضه، وكانت الأحكام يغلب عليها الصلح في معظمها. ويقول د.راشد رشود: عرف المشرِّع في الإمارات نظام القضاء الشعبي، و ذلك في المادة (9) من القانون رقم 92 لسنة 1977، المعدل بالقانونين رقمي 7 لسنة 1986، و4 لسنة 1988 بشأن تنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر بإمارة الشارقة، التي تنص على أن يكون من اختصاص اللجنة "لجنة التحقيق والشكاوى في البلدية" النظر والفصل على وجه الاستعجال في جميع المنازعات بخصوص العلاقة الإيجارية بين المالك والمستأجر الناتجة عن تطبيق أحكام هذا القانون. (وعلى الطرف الذي لا يقبل قرار اللجنة مراجعة المحكمة المختصة بحقه الذي يدعيه وذلك خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ تبليغه قرار اللجنة، وإلا اعتبر القرار نهائياً وملزماً وقابلاً للتنفيذ أمام قاضي التنفيذ في المحكمة المدنية المختصة). وينص المرسوم الأميري رقم 3 لسنة 1983 بالنظام الداخلي للبلديات في إمارة الشارقة على أن (تتكون اللجنة من أعضاء المجلس البلدي الذين يشترط في تعيينهم، طبقاً للمادة رقم (2) من المرسوم، أن يكونوا من مواطني إمارة الشارقة الذكور البالغين من العمر خمسة وعشرين عاماً، والمقيمين فيها بصفة دائمة، غير موظفين أو مستخدمين بالبلدية، وحسني السمعة). وهذه اللجنة، كما هو واضح، لا يدخل في تشكيلها أي عنصر قضائي، ويقتصر اختصاصها المحلي على إمارة الشارقة، كما عرفت إمارة دبي لجنة مماثلة مشكلة بمقتضى المرسوم رقم 2 لسنة 1993 بشأن تشكيل لجنة قضائية خاصة للفصل في المنازعات بين المؤجرين والمستأجرين، وتتكون هذه اللجنة من سبعة أعضاء يُختارون بقرار يصدره سمو رئيس البلدية (مادة 2 من المرسوم)، وتنعقد بحضور أربعة من أعضائها على الأقل، وتصدر أحكامها بالإجماع أو بالأكثرية (مادة 3 من المرسوم)، ويعتبر حكم اللجنة نهائياً غير قابل لأي طريق من طرق الطعن (مادة 4 من المرسوم)، كما توجد لجنة أخرى بدائرة الأملاك والأراضي بدبي تنظر في القضايا الحقوقية والجزائية المتعلقة بمعاملات التصرف في الأراضي بإمارة دبي. ويحظر المرسوم في الوقت نفسه على المحاكم النظر في هذه القضايا. وبذلك نجد أن المشرِّع في الإمارات توسع في نظام القضاء الشعبي، بل نص أحياناً على نهائية أحكامه.
مشاركة :