أثار مقالنا الأخير "في التطور.. الإنسان أصله قرد؟!" والذي تم نشره الأسبوع الماضي على موقع صحيفة "صدى البلد" مناقشات عديدة، كان كلها في غرف مغلقة، حيث تحاشى الأصدقاء، لحساسية الموضوع، الدخول في تلك المناقشات على العام، وكان من بين تلك المناقشات واحدة مع صديق عزيز هو شيخ أزهري زارنا هنا بالنمسا، دولة إقامتي، وخضنا سويا عديد المعارك لتخليص العقل العربي مما لحقه من خرافات السحر والشعوذة، فالرجل، في وجهة نظري، أحد هؤلاء المشايخ العقلانيين، الذين يعملون بإخلاص للعقيدة الإسلامية من ناحية، ويعلي العقل من ناحية أخرى، بالإضافة لتعاليه عن توافه القضايا، التي تملأ الساحة المصرية والعربية والإسلامية، حيث يراها ليست لا من أصول الدين ولا حتى من القضايا التي ينشغل بها المسلم. صديقي "الشيخ سيد سيد حسن مصطفى" قرأ المقال، وأرسل لي رفضه لنظرية التطور، لأن الأمر محسوم في قرآننا الكريم، وأن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان على هذه الهيئة من تراب من البداية. هنا ذكرت لصديقي أن البابا فرنسيس اعترف بنظرية التطور؛ لأنه ببساطة لا يستطيع أن يذكر لطفل يتلقى تعليمه في المدارس الأوروبية تصورا آخر في الخلق غيرها، فأمر التطور في العلم أصبح محسوما، ولأن الرجل تنويري، قال لي سأعود للمتخصصين وأعود مرة أخرى لك، وفي عودته المرة الثانية ذكر لي أن "المتخصصين" الذين رجع إليهم أكدوا له أن نظرية التطور ليست نظرية مكتملة وأن عليها العديد من الطعون، وأنها لم تصل لتصبح حقيقة علمية، وأن الخلق حصل هكذا كما هو مذكور بحرفيته في القرآن الكريم، وهو أن الإنسان خلق من صلصال من "طين الأرض". شكرت لصديقي الشيخ بحثه عن الحقيقة وعدت له بهذا الإحصاء: تفضل يا صديقي:ووفقًا لإحصاء تم عام 1995، إنًّ 99.85% من علماء الأرض والأحياء في الولايات المتحدة يدعمون النظرية، أي أن ١٥ من مئة في المائة فقط هم من لا يدعمون النظرية، وذلك منذ أكثر من ربع قرن، وطلبت من صديقي الشيخ أن يجعل القضية مفتوحة، فهذا لن يضيرنا في شيء، بل ربما يفيدنا باستخراج تأويل في حال كان ظاهر النص يرفضها، هذا الذي يذكرنا بما فعله المعتزلة، الذين قدموا العقل على النقل، والذين ببراعتهم العقلية والكلامية أثروا التراث الإسلامي أيما ثراء. ونتيجة لهذه المناقشة التي دارت بيني وبين صديقي الشيخ رأيت أنه من الحكمة أن نستمر في عرض القضية، هذا الذي كان قد طلبه مني صديق آخر هو التنويري المهندس "محمد حامد الشربيني"، وهنا اليوم اخترت أن نتعرف على الأنواع البشرية التي سبقتنا، والتي عاصرت الإنسان العاقل الذي هو نحن، وذلك لإيماني أن على الإنسان المعاصر، خاصة هذا الذي يشتغل بالثقافة، وكذلك رجل الدين، أن يتعرف على النظريات الهامة التي غيرت وجه التاريخ والتي منها نظريات الفلك التي قدمت تصورا كوزمولوجيا جديدا، استبدلت به التصور الكوزمولوجي الأرسطي الذي ساد أكثر من ألفي عام، ومنها النظريات الفيزيائية الحديثة التي بدأت بنيوتن لتصل لآينشتاين ثم فيزياء الكم، التي أربكت الجميع، من خلال تأويل كوبنهاجن، حتى جاء التأويل الرياضي الفيزيائي المحكم الذي وضعه الفيزيائي الأمريكي ديفيد بوم، الذي أعاد فيه الاحترام لموضوعية الطبيعة، ناهيك عن نظرية الأوتار، وكذلك نظرية سيمجون فرويد في علم النفس وبكل تأكيد نظرية داروين في التطور، هذه النظريات التي لم تبق على حالها منذ أن أطلقها مؤسسوها التي تُعْرَف بأسمائهم، بل تطورت تطورا هائلا تكاد تصبح به غريبة عنهم. وبالطبع نظرية الانفجار العظيم تأتي في قمة لائحة تلك النظريات التي يجب أن يتعرف عليها إنسان اليوم. إن العلم يخبرنا، من خلال الاكتشافات في المائة سنة الأخيرة، أن التطور البشري مر بعدة مراحل، حيث كان هناك أيضا قبل الجنس البشري أشباه البشر فيما يعرف بـ "أسترالوپيثكس Australopithecus وهو عبارة عن جنس من الأجناس الشبه بشرية والتي تعتبر أول من مشى على الأرض بقدمين اثنين قبل أربعة ملايين ومائتي سنة وانقرضت بصورة غريبة جميع فصائلها قبل مليوني سنة أو أكثر، أي عاشت ما يقارب المليوني سنة، ويعتقد العلماء أيضا بأن مجموعتنا والمسماة "هومو Homo" قد انشقت من هذا الجنس، وهو ما قيل في نظرية التطور إنه والقردة العليا قد جاءا من سلف مشترك. إن مسألة ظهور الإنسان، وكذلك جميع الكائنات ظهرت، كما يقول العالم الروسي ألكسندر بانشن، نتيجة عمليات تطور من سلف واحد، وهذا الأمر، على حد قوله، ليس موضع جدل في العلوم الحديثة، أما الذي فيه جدل هو ظهور الحياة، فهنا العلم لا يعلم بدقة: كيف حدث ذلك، وحتى هذه اللحظة هناك جملة من الفرضيات كالنشوء الحيوي والتولّد التلقائي، وفرضية التبذّر الشامل، والفرضية الوراثية وغيرها. ولكل فرضية من هذه الفرضيات أهميتها ووزنها العلمي. يفترض علماء الأحياء أن ثلاث فئات رئيسة من الجزيئات لعبت دورا في نشوء الحياة على الأرض وهي: الحمض النووي الذي ينقل المادة الوراثية الأساسية والحمض النووي الريبوزي وهو الجزئية الوسيطة والبروتينات، ولقد توصل علماء الأحياء الآن بقدر أو بآخر إلى استنتاج مفاده، أن الحمض النووي الريبوزي RNA يفترض أن يكون الأسبق من بين هذه الجزئيات، لأن الحمض النووي DNA خامل جدا وعمليا لا يشارك في عمليات كيميائية والبروتينات ليست قادرة على التكثر من تلقاء ذاتها، أما الحمض النووي الريبوزي RNA فإنه يمتاز بأنه قد يجمع مختلف التفاعلات الكيميائية الإنزيمية. بالعودة إلى موضوعنا فإن أول الأجناس البشرية هو ما يسمى الإنسان الحاذق أو الإنسان الماهر (هومو هابيلس)، والذي هو من أنواع الإنسانيَّات (كجنس)، وهو نوع منقرض عاش في مناطق شرق القارة الأفريقية ما بين (2.33 و1.4) مليون سنة مضت خلال الفترة ما بين العصر الجيلاسي والعصر البليستوسيني، وقد أكْتُشِفَت أول أحافيره في شمال تنزانيا عام 1962م.ثم نأتي إلى الإنسان العامل (هومو إرغاستر)، وهو نوع منقرض شبيه بالإنسان، عاش في مناطق شرق وجنوب القارة الأفريقية قبل 1.9 مليون سنة مضت، وهناك خلاف مستمر حول علاقته بالإنسان المنتصب (إيريكتوس)، مما يغير تاريخ انقراضه. والمرجح أن الإنسان المنتصب وإنسان هايدلبيرغ هما أحفاده الذين نشأوا عنه أثناء هجرته، ويمكن التفريق بين الإنسان العامل والمنتصب من سماكة عظم الجُمجمة، بينما يختلف عن إنسان هايدلبيرغ بعظامه الأرفع ووجهه البارز وجبينه المنخفض. ونقترب شيئا فشيئا من الإنسان الحالي حينما نصل إلى إنسان هايدلبيرغ (الاسم العلمي: Homo heidelbergensis، وتُلفظ: هومو هايدلبيرغينيسيس)، نوع أو نويع منقرض من الإنسان البدائي من جنس الهومو، يرجح أنه الأصل المباشر لإنسان نياندرتال في أوروبا والإنسان الحالي، تعود أحسن بقاياه التي تدل على وجوده إلى ما قبل (600 و400) ألف سنة. تتشابه تقنيات الأدوات التي استخدمها هذا الإنسان بتلك التي استخدمها الإنسان المنتصب (إيريكتوس). وقد سمي على اسم جامعة هايدلبرغ. وقد تم اكتشاف أول أحافيره في جنوب ألمانيا عام 1907م ثم فرنسا ثم اليونان ثم إيطاليا. يفترض أن إنسان هايدلبيرغ في أوروبا أدى إلى ظهور إنسان النياندرتال قبل 240000 عام (وهو تاريخ افتراضي مستنتج من الفجوة الأحفورية، ويطلق على إنسان هايدلبيرغ الأخير في أوروبا قبل 240000 عام اسم إنسان ما قبل النياندرتال)، ومن المحتمل أن يكون الإنسان العاقل صنف مشتق من إنسان روديسيا (إنسان هايدلبيرغ الأفريقي) بعد حوالي 300000 عام. تمت مناقشة الاختلاف الشكلي بين القسم الأوروبي والأفريقي من إنسان هايدلبيرغ خلال مرحلة ولستونيان (مرحلة في منتصف العصر الحديث الأقرب) ومرحلة ايبسويتشين (آخر فترات العصر الجليدي الرباعي) بناءً على أدلة من جمجمة أتابويركا في إسبانيا وجمجمة كابوي في زامبيا.إذًا نصل الآن إلى إنسان اليوم الذي هو الإنسان العاقل (باللاتينية: Homo Sapiens) هو الاسم العلمي للنوع الوحيد الغير منقرض من جنس الأناسي والمعروف بهومو (باللاتينية: Homo)، الذي يحتوي أيضًا على نياندرتال وأنواع أخرى من القردة العليا. الانسان العاقل الحديث تشريحًا (بالإنجليزية: Anatomically modern human) هو النوع الفرعي والذي يختلف عن سلفه المباشر الإنسان العاقل الأول (باللاتينية: Homo sapiens idaltu). أدى الإبداع وقدرة الإنسان العاقل على التكييف أن يصبح أكثر الأنواع نفوذًا على الأرض. يُقدّر بأنّ انتواع - "وهو عملية تطورية تظهر بواسطتها أنواع جديدة من المخلوقات الحية" - الإنسان العاقل عن سلفه الإنسان المنتصب (أو الأنواع الوسيطة كالإنسان السلف) حصل منذ نحو 350000 سنة، ويعتقد بأنّ الاختلاط القديم المستمر قد حدث في كل من إفريقيا (متبوعًا بالتوسع الأخير خارج إفريقيا) وأوراسيا، منذ نحو 100-30 ألف عام.هذا العرض الذي قدمناه هو عرض مبسط لتطور هذه الأنواع البشرية كما توصل إليها العلم. ونحن نطرح هذا الموضوع ونطرح معه سؤالا هاما؟ هل هذه الاكتشافات العلمية كلها خاطئة في منظور التصور الديني؟ أم أنه مقبول لدى التصور الديني كل هذه الاكتشافات العامة، ما عدا تصور أن يكون الإنسان بصورته وشكله الحالي "الذي هو في أحسن تقويم" هو غير المقبول من الناحية العقائدية، هذه قضية أظن أن من الأهمية بمكان أن يطرحها علماء الدين الإسلامي على مائدة البحث وخاصة علماء الأزهر الشريف الذين ينتظر منهم الكثير في هذا المجال.وقبل أن نغادر الموضوع نضع هنا إجابة علمية عن سؤال يطرح غالبا باعتباره يقصم ظهر نظرية التطور وهو:لماذا لا تتحول قرود اليوم إلى بشر؟ يجيب على هذا السؤال الدكتور ستانيسلاف دروبيشيفسك العالم الروسي المتخصص في علم الأحياء وعلم الإنسان فيقول:في الحقيقة إن القرود في يومنا الراهن تتطور ولكن لا وجود لقوى من قوى الطبيعة يمكنها أن ترغم القرود الحالية على التحول إلى بشر تحديدا، إن القرود الحالية هي نتاج سلسلة تطورية مستقلة بخلاف القردة القديمة التي تطورت منها، وهي تختلف عن القرود القديمة أكثر مما نختلف نحن عن تلك القرود ولذلك فإن السؤال: لماذا لا يتحول البشر إلى شمبانزي؟ والجواب هنا: لأن قرود الشمبانزي بحسب بعض المقاييس تطورت أكثر مما تطور البشر وبحسب مقاييس أخرى كان تطورنا نحن بدرجة أكبر، هذا أولا، أما ثانيا وهو الأهم، كما يؤكد العالم الروسي، فإنه لكي نرى سياق التطور لابد من تتبع حياة أجيال كثيرة بلا انقطاع وعلى مدار حياة إنسان واحد يمكن تتبع حياة جيلين من القرود أو ثلاثة أجيال لا أكثر، وخلال هذه المدة الزمنية لن يكون تطورها ملحوظا، لأن التطور يستغرق آلاف السنين، وبما أن الإنسان لا يستطيع العيش مئة ألف سنة مثلا، يلجأ إلى دراسة مئة ألف سنة من السنين السابقة من خلال العلوم المعنية المعتبرة. وهذا يساعد في معرفة كيف تطورت القرود الحالية.
مشاركة :