المسنون والتكنوقراط... أبوة وعقوق

  • 1/7/2021
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

في صباح يوم شات رن هاتفي وإذ برقم صديق عزيز تجاوز السبعين سنة من عمره، أمضى منها أكثر من خمسين عامًا في خدمة وطنه الغالي ومجتمعه العزيز. خلال هذه العقود الخمسة نسي نفسه، لدرجة أنه لم يحصل على شبرًا واحدًا من الدولة. بل كان مُعمِلًا كُل تفكيره ومسخرًا جُل حياته في سبيل الشأن العام، متبنيًا خدمات اجتماعية هنا، ومطورًا لكيانات اقتصادية هناك. كان كالطائر يلاحق هموم المواطنين في كافة مناطق المملكة. كانت بعض الجهات الحكومية والأهلية تخطب وده وتستعين بأفكاره النيرة ورؤاه الثاقبة في تطوير لوائح معينة، أو إحياء فعاليات توعوية أو إرشادية عامة. لقدره الكبير في قلبي، ومكانته العظيمة في نفسي، لم أصدق أن هذا الرجل الرائع لم ينسني، بل تسلل الزهو والفخر إلى نفسي – المسكينة – أن هذه القامة العالية والهامة الشامخة قد بادرتني بالتواصل بعد انقطاع دام أكثر من عشر سنوات. بالرغم أن طيفه العزيز لم يغب عن بالي وأنا أردد بيت أحمد شوقي (شهد الله لم يغب عن جفوني...شخصه ساعةً ولم يخل حسي) أسرعت بالرد عليه قبل أن ينقطع الاتصال تحت ضغط أدبه الجم حيث أتذكر أن رنات هاتفه لا تتجاوز الثلاث رنات، وفي الأوقات التي يطمئن أنها مناسبة للطرف الآخر. وبعد تبادل عبارات السلام والسؤال عن الأحوال، وعن الأبناء، قال لي (أود مقابلتك في المكان والزمان الذي تحدده أنت يا فلان)، فرددت عليه (بل إن هذا شرف لي كبير وأيما شرف، لكنني أنا الذي سأتشرف بزيارتك في المكان والزمان الذي يحدده شخصكم الكريم). تقابلنا، ففوجئت أن عوامل الزمان قد انتهكت نضارة وجه صاحبي المتميزة، وأضعفت حباله الصوتية التي كانت تهز المنابر، ويتردد صداها في القاعات. وبعد أن بادرته بالسؤال التقليدي عن أحواله الصحية، وأموره الحياتية، طأطأ رأسه الذي كانت تشرئب له الأعناق، وبدأت شفاهه ترتعد وكأنها تحبس جمعًا متزاحمًا من الآهات والتنهدات. خيم الصمت للحظات على المجلس، ولم أشأ مقاطعته ريثما يمسك هو بزمام الحديث من جديد. وبعد زفرة فيها خليط من الحزن وشيء من تباريح الجوى، قال (هل تعلم «يا أبا فلان» لماذا بادرت بالاتصال بك؟) قلت (نعم لكي نسترجع آمالنا العريضة، بصناعة مجتمع راق، يقوم على روابط إنسانية نبيلة) فقال (بكل تأكيد كما ذكرت، ولكن إضافة إلى ذلك كي نعمل سويًا - جردة حساب وتقييم للنتائج التي تحققت بعد ما ترجلنا، وترجل شركاؤنا في العمل الاجتماعي). ثم تساءل (ألا ترى أن جميع آمالنا قد تبخرت أمام حماس الشباب «التكنوقراطيين» الذين أمسكوا بمفاصل الشأن الاجتماعي)، ثم سألني (هل تريد أن أصب في كاسك قطرات من الحزن المصفى؟ ، كان عندي مساء الليلة البارحة – الدكتور فلان الذي يبلغ من العمر 67 سنة – وذكر أنه تقدم للبنك الفلاني بطلب قرض شخصي لتمويل تعليم أبنائه، فرفض البنك طلبه بحجة أن لوائح البنك لا تسمح بإقراضه بسبب العمر. وعندما سافر – أخونا هذا - الى المنطقة الفلانية، نزل من الطائرة واتجه إلى إحدى شركات تأجير السيارات، فاعتذر الموظف منه بسبب العمر – أيضًا - متذرعًا بأن شركة التأمين تتحفظ في التعامل مع المسنين فلا تصدر لهم بوليصة تأمين شامل) ثم رفع صاحبي رأسه وسألني (هل تريد مزيدًا من الأسى؟) ودون أن ينتظر مني القبول قال (ذات مرة أخذ صاحبي -الوصفة الطبية من مستشفى شهير، وذهب إلى صيدلية المستشفى، فأبرز بطاقة التأمين فرفضت الشركة التأمين تَحَمُل قيمة المكملات الغذائية التي تعتبر بالغة الأهمية للمسنين). ثم واصل صاحبي حديثه قائلًا (خذ هذه أيضًا، فكر هذا الرجل - الذي يعتبر مخزن حكمة حصيفة، وترسانة خبرات ثرية وتجارب عملية عريقة – التقدم لعضوية مجلس إدارة إحدى الجمعيات التعاونية المركزية، فوجد أن الشروط التي وضعتها «الوزارة المختصة» لا تنطبق عليه، لماذا؟ لأن عمره يتجاوز 65 سنة)، استطرد صاحبي قائلًا (مما يحز بالنفس أن جميع هذه الاشتراطات صدرت من جهات وكيانات يفترض فيها أنها معنية بالتنمية الاجتماعية وتعزيزها، حيث أن رفض إقراض المسنين جاء من طرف البنوك، وإن رفض تأجيرهم السيارات جاء بناءً على شروط شركات التأمين «التعاوني» التي لم تحمل من «التعاون» إلا اسمه وهذه الكيانات – البنوك وشركات التأمين - مرخصة من «البنك المركزي السعودي» وتخضع لرقابته الصارمة. وأن رفض قبول ترشح – صاحبنا – لعضوية مجلس إدارة الجمعية التعاونية المركزية جاء بسبب تعليمات صدرت من «وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية» فهل هذه الوزارة، وهل «البنك المركزي» وهل البنوك وشركات التأمين التعاوني» تعتبر أن الشخص تنتهي صلاحيته ببلوغه سن الخامسة والستين؟) ثم نظر محدثي إلي من خلال عدسات نظارته السميكة، وسألني (وهل تعلم كيف وصلت أمور المسنين إلى ما وصلت إليه؟) قلت الله وأنت أعلم، قال (كل ذلك تحقق بسبب زحف «مفاهيم الإدارة التكنوقراطية» التي لا تقيم وزنًا كافيًا للجوانب الإنسانية، حين أمسكت هذه المفاهيم بمفاصل الشأن الاجتماعي). من هنا، وأمام معاناة المسنين، أتوجه إلى كل من «وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية» و «البنك المركزي السعودي» و»الهيئة العامة للغذاء والدواء» و «مجلس الضمان الصحي» وأناشدهم بعدم التساهل بمصالح المسنين والحرص على تأمين حقوقهم وتلبية متطلباتهم. كما أتمنى أن أرى بنوكًا وشركات تأمين تتمتع بحس اجتماعي عالٍ تدرك مسؤولياتها الوطنية، وتنظر بعين العطف إلى المسنين.

مشاركة :