العنوان أعلاه محاولة نحت تجميلي من المثل العربي سئ الذكر، قد لا تروق للبعض، لكن حسبي أنها ستروق لآخرين! ظلت مجلة القافلة، التي تصدر عن شركة أرامكو، «تسير» طوال سبعين عاماً في دروب التثقيف: العلمي؛ النفطي خصوصاً، والفكري؛ الأدبي خصوصاً. لم تتوقف عن هذا الفعل، رغم تغيّر اسمها وتبدّل رؤساء تحريرها، وتوّقف العديد من قوافل الصحافة الثقافية التي كانت تسير إلى جوارها. وفي حين ظن قراؤها بأنها ستتمسك بالحد الأدنى من الوجود، وسط الفناء الذي يهدد أقنية الصحافة من حولها، فاجأت (القافلة) قراءها بأنها «تسير» نحو صنع مبادرات تتجاوز مجرد رتابة الإصدار. سيساعدها في تحقيق ذلك، الذراع المتين الذي أنشأته أرامكو ليكون (مركز إثراء) للثقافة العربية، وبناء علاقات تعددية مع الثقافات العالمية. في احتفالية اليوم العالمي للغة العربية لعام ٢٠١٩ قرر تحالف: مركز إثراء ومجلة القافلة الالتزام بمبادرة تخدم اللغة والثقافة العربية، من منظور إنساني عالمي، من خلال إعادة نشر (المعلّقات) الشعرية العربية الخالدة، بشروحات وترجمات تتلائم مع «مزاج» الجيل الجديد. التزم الطرفان بإنجاز المشروع خلال عام واحد، بحيث يتم تدشينه بالتزامن مع احتفالية اليوم العالمي للغة العربية لعام ٢٠٢٠م. مرّ ٢٠٢٠ على البشرية بمرارة، وتوقفت العديد من المشاريع والأفكار والمؤتمرات والزيجات، لكن المبادرة الأرامكوية لم تتوقف. والفريق المشرف على المشروع، برئاسة بندر الحربي ومساندة محمد أمين أبو المكارم ومتابعة حاتم الزهراني، كأنه قد أخذ لقاحاً مبكراً ضد خيبات كورونا، التي أصابت مشاريع الآخرين. في الموعد المحدد ذاته، ورغم أنف كورونا، صدر كتاب (المعلقات لجيل الألفية) متكاملاً كما خُطط له، من دون أي أعراض! يصف د. حاتم الزهراني الكتاب بأنه «يقدّم دعوة لطيفة وبلغة مناسبة إلى الجيل الجديد للدخول إلى مسرح المعلقات والاستمتاع بالدهشة». وقد صُنعت هذه الدعوة اللطيفة من لدن الثمانية الذين غزلوا محتوى الكتاب بأناملهم البديعة، شرحاً بلغةٍ ألفيّة وترجمةً للغة الانجليزية (سامي العجلان، صالح الزهراني، عبدالله الرشيد، عديّ الحربش، ديفيد لارسن، سوزان ستيتكيفيتش، كفين بلانكنشيب، هدى فخرالدين). وإن كان الكتاب مفرحاً لذاته، فإن ما يفرح فيه أكثر أن الأسماء النقدية التي عَلَته ليست الأسماء النقدية التي تطفو دوماً في «محميّات» النقد الأدبي المحلي منذ سنين! شكّل سامي وصالح وعبدالله وعديّ نواةً واعدة للنقاد السعوديين الجدد، غير المأزومين بصراع التيارات وأدلجة النصوص. معاركهم ليست مع الجماهير بل مع النصوص، لكشف غوامضها وتسييل الدماء المتحجرة في معانيها. كانوا يشرحون المعلقات بعفوية فائقة، كأنهم هم الذين كتبوها، بل ربما حلبوا منها عبر قاموسهم التأويلي البديع أجواء لم تخطر في بال الشاعر نفسه. ولو كان طرفة بن العبد موجوداً الآن بيننا لسأل سامي العجلان مستعجباً كيف عرف أن «خياله الواسع في وصف ناقته إنما أرادها أن تكون حلماً يتجاوز حدود الإمكان، ورؤيا تعلو على شروط الواقع وضرورات الحياة»؟ وهكذا أيضاً سيكون التلاسن المحبَّب بين عمرو بن كلثوم وصالح الزهراني، وبين عنترة وعبدالله الرشيد، وبين الأعشى وعدي الحربش. ما أنجزه مركز إثراء ومجلة القافلة، خلال سنة واحدة فقط و»كبيسة»، هو ليس مجرد كتاب، بل إعادة حفر كنز مدفون، وتوزيع جواهره على كل من شاء في هذا العالم من هواة اقتناء الكنوز الإنسانية الخالدة. ومن حقنا أن نزداد طمعاً فنسأل إثراء والقافلة: ما الهدية الفاخرة التي ستمنحوننا إياها في حفل الميلاد العاشر لليوم العالمي للغة العربية هذا العام (١٨ ديسمبر ٢٠٢١)؟
مشاركة :