هي ابنة الشهيد علي طه الذي قتله الإسرائيليون في مطار اللد العام ١٩٧٢ اثر خطفه ومجموعة من رفاقه في منظمة «أيلول الأسود» طائرة «سابينا» من بلجيكا إلى فلسطين بهدف تحرير الفدائيين الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي. كانت يومها ابنة سبع سنوات طفلةً لا تعي من الدنيا الكثير، لكن المَشاهد التي تلت استشهاد والدها من رد فعل أمها إلى ذهول شقيقاتها الثلاث الأصغر منها إلى جنازة والدها الرمزية (لأن الاحتلال احتجز جثته) والرثاء الاحتفالي بالموت، كلها حفرت عميقاً في ذاكرتها ورافقتها كأوشام دهرية في مشوار حياة حافلة بالأحداث والتفاصيل، يختلط فيها في شكل وثيق الخاص بالعام والفردي بالجماعي. رائدة طه الطفلة التي كبرت قبل أوانها حولت قصتها الشخصية منذ تلك اللحظات المؤلمة التي جاء فيها خبر والدها وصولاً إلى عملها مع الرئيس الراحل ياسر عرفات وما بينهما، إلى عرض مونودرامي يلامس متلقيه ويأخذه في رحلة ممتعة يمتزج فيها الدمع بالضحك من فرط شفافية العرض والأداء وصدق الحكاية التي تقدم ما يشبه سيرة موجزة للثورة الفلسطينية نفسها، والأهم أنها سيرة بلا رتوش أو بلا تجميل، تحكي طه قصة ابنة الشهيد من خضم التجربة، وتطرح الأسئلة البريئة التي تراود طفلة تنتبه جيداً إلى ما يدور حولها، مثلما تطرح الأسئلة العميقة التي رافقت مسار الثورة الفلسطينية بتضحياتها النبيلة وكذلك بما شابها من أخطاء وتجاوزات أوصلت القضية الفلسطينية إلى ما تعيشه اليوم من مآزق وعثرات، لكن الجميل أن رائدة طه لا تفقد الأمل، ولا تقدّم وجهة نظر عدمية، بل تطرح حكاية واقعية حتى البكاء، حكاية كل فلسطيني ربما، حكاية أبناء الشهداء وزوجاتهم في شكل خاص بعيداً من الأسطرة والشعارات والكليشيهات، قريباً جداً من كل وجع إنساني ومن كل قضية أو نكبة، وما أكثر النكبات في وطننا العربي وما أمرّها. يوم عُرضت مسرحية «ألاقي زيّك فين يا علي» (تستعير عنوان أغنية صباح، كلمات مأمون الشناوي، ألحان فريد الأطرش) في بيروت قبل أشهر لم يتسنَ لي مشاهدتها لكن أصداء نجاحها والجدل التي أثارته جعلتني أتحين فرصة مشاهدتها، وشاء حظي أن أشاهدها في مدينة صور جنوب لبنان حيث الفنان الشاب قاسم إسطمبولي يأخذ زمام المبادرة الفردية في تنشيط حركة مسرحية سينمائية ممتازة. أقول الحظ لأن العرض يستحق المشاهدة، خصوصاً أن مخرجته لينا أبيض قدمته بشفافية جارحة، وبتقشف إخراجي أتاح لرائدة طه أن تتجلى في أدائها وتبلغ في بعض اللحظات نوعاً من النشوى الصوفية الخالصة، بلا إفراط أو مبالغة، أداء داخلي عميق متمكن يسعفها فيه كونها تروي حكايتها الشخصية ومن خلالها حكاية شعبها الذي لم يفقد الأمل ولا الإصرار على مواصلة الكفاح لأجل حريته واستقلاله على الرغم مما طاوله من عسف الاحتلال وظلم ذوي القربى وأخطاء قياداته. ولعل الجزء المتعلق بعمّتها، تلك السيدة المقدسية التي تمكنت بمفردها من لقاء وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر واستعادة جثمان شقيقها من «ثلاجة» الاحتلال، هو أكثر ما يعبّر عن ذاك الجانب الفطري التلقائي في نضال الإنسان الفلسطيني اليومي لأجل أبسط حقوقه البديهية مثل «إكرام الميت دفنه»! منذ فترة لم نشاهد عملاً مسرحياً مونودرامياً نسائياً كالذي قدمته رائدة طه ولينا أبيض حيث متعة الأداء وعمق الموقف الإنساني ومتعة المشاهَدة، خصوصاً أن رائدة طعَّمت نصها أو حكايتها بنوع من سخرية سوداء نجحت في انتزاع الضحكة والدمعة معاً في آن. والأجمل أنها لم تفقد الأمل وظلت تبشر به على الرغم مما علِمته وذاقته من خيبات ومرارات. مونودراما جميلة مدهشة موجعة في زمن تناسلت فيه النكبات ولم تعد وقفاً على فلسطين حيث الجرح الغائر يمتد ويتعمّق في جسد الأمة من محيطها إلى خليجها، وعملٌ مسرحيٌّ آسرٌ شفاف نخرج منه بكثير من الدمع والأسئلة، ولعل مُشاهِده يكتشف لحظة فرجته أسرار نجاحه وذيوع صيته وما أثاره من نقاش واستمرار عرضه واستعداد فريقه للسفر في جولة تشمل بلداناً أجنبية وعربية بينها مصر والإمارات، ولِمن تتسنى له فرصة المشاهدة نقول انه فعلاً عرض يستحق في وقت لم نعد نحظى فيه بالكثير من العروض المسرحية العميقة والممتعة في الوقت عينه، إنها حقاً مونودراما لا نلاقي «زيّها» بسهولة حتى لو أثارت الجدل والنقاش فهذا يُحسب لها لا عليها.
مشاركة :