قبل تسع سنوات كنت أعمل بمحافظة المحرق بناء على طلب من المحافظ سلمان بن هندي، حيث خول إليّ بو عيسى كتابة الخبر الاسبوعي الخاص بالمحافظة طوال 7 شهور من عملي غير الرسمي آنذاك، اتذكر أنه في إحدى الجلسات الاسبوعية العامرة للمحافظة حضر رجلان لم نلتق بهما من قبل ولا حتى من بعد ذلك اليوم، حيث اتخذا محلهما جوار الزاوية اليمنى للمجلس بالقرب من البوابة الرئيسية. وطوال تلك الجلسة كنت أدير عيني نحوهما بين الفينة والأخرى، فقد لفتا نظري لكثرة لكز أحدهما للآخر وهو يحثه على الحديث بقوله: يالله، تكلم والآخر يتردد في ذلك ويستمهل صاحبه، حتى قلت في نفسي دون شك في جعبتهما أمراً بالغ الأهمية، وأصابني الفضول لمعرفته وكأنني أشاركهما تلك اللهفة التي جاءا بها للمحافظة، وبين حث وتمنع نفضت عقارب الساعة دقائقها الأخيرة لإنفضاض المجلس، وبصعوبة رفع أحدهما يده مستأذنا للحديث وهو محمر الوجه بين شهيق وزفير يوحي بأنها المرة الأولى التي يتحدث فيها أمام ملأ من الناس. قال: إحنا عندنا ملاحظة يا طول العمر، ونبي نوصلها لكم...، وكانت ملاحظته التي استغرق ساعتين وتصبب عرقاً للحديث عنها هي: المتسولين، قال: فيه الكثير من المتسولين بسوق المحرق، وهذول يحرجونا مع الإخوة الخليجيين الذين يأتون لزيارة البحرين. ثم أنقضى المجلس ولا علم ليّ بالإجراءات التي تم اتخاذها للشكوى آنذاك، ولكن بعد هذه السنوات التي تعدل عقداً أو جيلا برمته، حيث انتقل الطفل ذو العشر سنوات إلى طور الرجولة وأصبحت الفتاة إمرأة، وربما تجدهم على مقاعد الجامعة أو في بيئة العمل، أو لعلهما متزوجان ولديهم أسر مستقلة، بعد هذه السنوات التسع ماذا حدث؟!! الذي حدث من خلال ملاحظتي أن محافظة المحرق أصبحت بيئة خصبة للتسول بشكل مباشر أو غير مباشر، وأن هؤلاء المتسولين يزعجون المارة، ولا داع لذكر جنسيات أو قوميات فهذه نقطة بات البعض يتحسس منها والهدف هنا مخاطبة الجهات المعنية للنظر في الأمر فقط لا أكثر، كما أننا غير مخولين للحديث عن أماكن تواجد هذه الفئة. ولكم أعزائي القراء قصة تتكرر كلما توجهت للشراء في أماكن معينة، فذات يوم كنت أطلب وجبة العشاء في أحد المطاعم المعروفة، فطرق عليّ أحدهم النافذة وفي يده عطورات، فرفعت اليه يدي وابتسمت في وجهه من باب الذوق وأنا أشير لعدم الرغبة في الابتياع منه، ثم أدرت وجهي ناحية الأهل متجاهلا اياه بيد أنه تسمر عند عربتي، واطلت النظر باتجاه أهلي عله ينصرف، غير أنه ظل واقفاً يضرب على النافذة وهو يعقف جبينه وحاجبية متوسلاً، وعاودت رفع يدي والابتسام في وجهه وبالغصب راح. وفي إحدى المرات كنت في شارعٍ آخر عندما استقبلني أحدهم عند باب السيارة، قبل صعودي، قال: قرآن كريم فسألته: بكم، فقال: كيفك أنته حط السعر، وكلنا يعلم أننا كمسلمين لا نتجرأ على وضع سعر لكتاب الله عز وجل، على كل حال لم اشأ الشراء، فإذا به يتباكى ويتمسكن بأن عائلته فقيرة وأنهم محتاجون وغيرها، نسأل الله العفو والعافية للجميع، وهذا نوع من التسول أيضاً، فبغض النظر عن مشروعية عمله من حيث الترخيص أو العكس، يفترض أنه يعرض بضاعته وللمعروض عليه حرية الشراء، أما الإلحاح وتحول العرض إلى استجداء ملؤه التكلف فهو غير حضاري برأيي. وذات ليلة كنت أنتظر الأهل أمامم أحد المخابز، حين طرق رجل خمسيني نافذة السيارة، وهذه المرة ليست لديه بضاعه وإنما دغري بسط يديه وتمتم بكلمات حجبها الزجاج عن سمعي ولكن بكل وضوح كفه ينطق بالتسول، وأومأت له ب لا، وانصرف دون إلحاح، فنظرت إلى يده الأخرى وإذا فيها كيس يحتوي على عدة أقراص من الخبز مع كيس بني آخر مطبوع عليه بعض الدهن المستخدم في الطهو وكأنه كيس سمبوسة أو مشويات أو ما شابه، وهو متوجه ناحية الشقق وليس السوق، وكأنه يقول: نترزق على الدرب واحنا رايحين البيت، يمكن نحصل شيء، مو عيب في هالديرة ماحد يعرفنا. هذه بعض الصور التي تشوه الجانب الحضاري لمحافظتنا العريقة، والحقيقة أنه في عهد جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة حفظه الله تم تشريع الكثير من القوانين التي تدعم الأسر المتعففة، وتحسن مستوى المعيشة للجميع، ناهيك عن المساعدات التي تصرف للأيتام والأرامل والمعاقين وغيرهم، ولعل ال 360 التي أودعت للمتقاعدين قبل أيام خير دليل، كما أن البحرين تحتوي على عدة جهات خيرية تمد يد العون بشكل نظامي، وبالتالي ليس هناك ما يستدعي التسول بهذه الطرق المزعجة التي باتت تنغص على المارة هنا أو هناك. بدر الحاج
مشاركة :