ربّما كنت متفائلا أكثر من المعقول، أو ربما كنت حالما دون حدود حين نجحت في يناير 2011 ثورة الياسمين في تونس سلميًّا لتُجبِر الرئيس الأسبق آنذاك «زين العابدين بن علي» على الفرار، ولم يكن تفاؤلي من عدم، ولا ضرب من الوهم. بل كانت الفرصة سانحة لتحقيق ما خرج الشباب من أجله (شغل، حرية، كرامة وطنية) وهي أهمّ أسس الديمقراطية الاجتماعية التي تحلم بها تونس منذ الاستقلال. وبالرغم من ثقل تركة النظام السابق وحجم الفساد الذي استشرى في البلاد، فإنّ عشر سنوات لربّما كافية لعمل تقييم أولي لمسار الانتقال الديمقراطي في تونس، فما حصل خلال هذه العشرية الأخيرة، يحتاج وقفة جديّة، وقراءة علمية عميقة بعيدة عن الاصطفاف الحزبي والإيديولوجي، قراءة واقعية تلقي الضوء على سنوات مهمّة في تاريخ تونس المعاصر. وإذْ لا ندّعي في هذا المقال القصير مثل هذه القراءة العميقة لضيق المساحة فإننا نسعى إلى إلقاء الضوء على بعض مفاتيحها لعلّ غيرنا يزيدها عمقا بالتفكيك والتحليل والتقييم لبناء رؤية واضحة لتجربة ناضجة في الوطن العربي. من حيث مناخ الحرية والتعددية السياسية، فقدتحقّقت لتونس بعض المكتسبات، من ذلك توسّع مجال الحريات السياسية وترسّخ تقاليد المجتمع المدني. كما لا يشكّ أحد الآن أن حريّة الصحافة في تونس والحريات النقابية والحريات السياسية وتأسيس الأحزاب أفضل ربّما من دول أوروبية عريقة في الديمقراطية، فقد تجاوز عدد الأحزاب المئتيْـن، ورأت آلاف الجمعيات النور، وتأسست عشرات المحطات الإذاعية والتلفزيونية، والعشرات من دور النشر الجديدة، وعشرات الهيئات والمراصد التي تكافح الفساد وتدعو إلى الشفافية... كما يحسب لهذه التجربة الفتيّة، مقارنة بنظيراتها في الدول العربيّة، عدم الانجرار في دوّامة العنف والتقاتل والتخريب، وهذا لا يعود أمانةً إلى دور كبير للأحزاب السياسية، وإنّما مردّه الحقيقي عراقة الدولة الوطنية ونضج المجتمع المدني وطبيعة المواطن التونسي المرن والميّال إلى الحوار وقبول الآخر بشكل أو بآخر، ولعلّ فوز الرباعي الراعي للحوار في تونس بجائزة نوبل للسلام 2015 أبرز دليل واعتراف عالمي لمناخ الحوار الإيجابي في تونس. لكن، وبعد عمل عشر حكومات خلال عشر سنوات، وعلى المستوى السياسي دائما تبيّن أنّ عمل أيّ حكومة بقي مرتهنا بتحالف برلماني هجين بين حركة النهضة الإسلامية الأكثر فوزًا بمقاعد البرلمان ومن يأتي خلفها من أحزاب. والحقّ أنّ أيّ حزب سياسي لا يستطيع، بسبب القانون الانتخابي الذي انتهجته تونس، تكوين حكومة بمفرده يكون معها مسؤولاً مسؤولية تامة عن أي قرار أو منوال اقتصادي أو أيّ تغيير جذريّ ممكن. لذا ترى الحكومات في تونس تتساقط بسرعة كبيرة، ومسؤولية الفشل الحكومي تتوزّع على أحزاب كثيرة جدًا دون محاسبة تُذكرُ. بل وصل الأمر إلى التشكيك في نزاهة بعض الوزراء واستعمالهم كموظفين سامين في خدمة بعض رجال الأعمال الذين دخلوا على الخط السياسي إما حفاظًا على امتيازاتهم أو من أجل ضمان امتيازات جديدة. بالإضافة إلى هذا التعثّر السياسي الذي بلغ مرحلة الانسداد في مناسبات كثيرة، يلاحظ المتابع بوضوح تعثرًا أو ربّما تعطيلاً أحيانًا مقصودًا لاستكمال البناء المؤسساتي للانتقال الديمقراطي، حيث عجز البرلمان التونسي عن استكمال اختيار أعضاء المحكمة الدستورية، والهيئة المستقلة لمقاومة الفساد والهيئة المستقلة للاتصال السمعي والبصري. وهذا التعثّر السياسيّ انعكس سلبًا على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، إذْ ازدادت الأزمة عمقًا، ولم يشهد الاقتصاد التونسي نموًّا إيجابيًّا يُذكَر، بل تراجعت معظم مؤشراته مقارنة بمؤشرات 2010، وتفاقمت تبعًا لذلك مستويات البطالة حتى فاقت 18% وتراجعت العديد من الخدمات ولا سيما مع الظرف الصحي الراهن (جائحة كورونا). وهكذا بعد عشر سنوات بدت البلاد وكأنها سفينة في بحر متلاطم الأمواج، فقد مجّ الناس الحياة السياسية إذْ انشغل السياسيون بمعاركهم الثانوية، وانصبّت اهتماماتهم حول الحكم وتحالفاته في وقت تحاول فيه بعض الأطراف استغلال وضع البلادبترويج خطاب إقصائي يذكّرنا بزمن الديكتاتورية، ولو بالاستقواء بالخارج. في حين طالبت أطراف أخرى بإنهاء منظومة الحكم الحالية، ودعت الرئيس التونسي قيس سعيد إلى استعمال صلاحياته الدستورية وحل مجلس نواب الشعب، وإجراء انتخابات مبكرة. وتظلّ التنمية الاقتصادية شرطًا ضروريًّا لنجاح الانتقال السياسي الديمقراطي وتحقيق العدالة الاجتماعية المأمولة، غير أنّ النخبة السياسية الحاكمة في تونس والحكومات المتعاقبة تبنّت على مدى السنوات السابقة نفس الخيارات الاقتصادية التي ساهمت في إفقار التونسيين أي سياسة نيوليبرالية، وغضت النظر عن الديمقراطية الاجتماعية وهو ما أدى إلى تفقير الطبقة الوسطى التي تمثّل غالبية الشعب التونسي. ومثلما هو الشأن في بعض الدول الغربية (الولايات المتحدة الأمريكية نموذجًا)، ظلّت الاختيارات السياسية في تونس محكومة بلوبيّات ماليّة تتحكّم في المشهد السياسيّ والاقتصاديّ بلباس ديمقراطي، بعد أن كانت هذه اللوبيات قبل الثورة تقود البلاد بطريقة غير ديمقراطية. وهكذا يتبيّن أن الانتقال الديمقراطي في تونس يترنّحُ، ويعاني من التعثّر، بل ربّما الانسداد أحيانًا. لكن ذلك لا يعني العودة إلى الوراء، وإنّما حان الوقت للاستماع الجيد إلى المطالب الاجتماعية وتحسين الخدمات والحق في الشغل والتوزيع العادل للثروة والعيش الكريم وذلك استكمالاً لمكتسبات هذا الانتقال.
مشاركة :