على غرار ما جرى خلال الأحداث الكبرى في التاريخ الحديث، تسلط الأزمة الصحية والاقتصادية الناتجة عن جائحة «كوفيد - 19» الضوء على أهمية الدور الحيوي الذي تلعبه المؤسسات العامة. تقع مسؤولية المواجهة على عاتق الدولة عندما تطرأ المحن، لا سيما تلك التي تُعرِّض حياة الملايين وسبل عيشهم للخطر. لذلك فإن التأكد من أن المؤسسات العامة تعمل بفاعلية وأنها قبل كل شيء أهل لثقة المواطنين الذين تخدمهم، هو حجر الأساس لبناء اقتصادات مستقرة وأكثر أماناً وشمولية. وقد أضحى الوقت مناسباً وضرورياً للمبادرة أكثر من أي وقت مضى.يؤكد تقرير صادر حديثاً عن صندوق النقد الدولي، يبحث في كيفية تعامل بلدان في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وآسيا الوسطى مع قضايا الحوكمة في السنوات الأخيرة، أن إصلاحات الحوكمة ومكافحة الفساد ضرورية لإعادة البناء بعد الأزمة بشكل أفضل وإلى تحفيز إعادة التعافي بشكل قوي ومستدام.يدلل هذا التقرير مرة أخرى على أهمية تحسين الحوكمة والحد من الفساد من أجل تعزيز النمو؛ إذ إن هذه العوامل تؤدي إلى نتائج اقتصادية أفضل وإلى استقرار مستدام للاقتصاد الكلي من خلال جعل استخدام الموارد العامة وتقديم الخدمات الحكومية أكثر فاعلية، وأيضاً من خلال تعزيز ثقة المستثمر والقدرة التنافسية. علاوة على ذلك، يمكن للمؤسسات الحكومية والضريبية الفعالة أن تعزز التماسك الاجتماعي، وأن تضمن أنه سيتم توزيع عوائد النمو بشكل أفضل وأكثر تشاركية بين جميع مكونات المجتمع.لذا نظراً لأهمية هذه الإصلاحات، يُطرح السؤال: كيف تسيّر دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أمورها في هذا المجال؟النبأ سار، وهو أنه قد تم إحراز تقدم ملموس.على سبيل المثال، أحرزت المملكة العربية السعودية ومصر والعراق تقدماً في السنوات الأخيرة في إِفساح مجال أوسع للولوج إلى معلومات الموازنة والمالية العامة، في حين قدمت تونس نموذجاً جيداً حول كيفية إشراك المواطنين في عملية إعداد الموازنة من خلال تمكينهم من تقديم الملاحظات حول كيفية استخدام آراء الجمهور في أثناء الجلسات التشريعية. كذلك سعت عدة دول إلى تحسين المسار المتّبع في عمليات الشراء العام والمناقصات، بما في ذلك المملكة العربية السعودية والكويت والمغرب. وكذلك، نجح الأردن في تحسين الشفافية في البلاد من خلال نشر تقارير عن أنشطة مكافحة الفساد بشكل منتظم وتعزيز فرض قانون الوصول إلى المعلومات.كما بدأ العديد من دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في تبسيط التشريعات التي تنظّم الأعمال التجارية، بما في ذلك من خلال اعتماد نظام النافذة الواحدة (one - stop shop) كما هو الحال في تونس.وفي حين أن هناك إشارات مشجّعة في جميع أنحاء المنطقة، لا تزال هناك حاجة للكثير من الجهد الإضافي لتحسين الحوكمة ومواجهة آفة الفساد ومخاطر استشرائه. إن معالجة نقاط الضعف المتبقية في الحوكمة المالية والاقتصادية، لا سيما تلك المتعلقة بالشفافية والمساءلة، يمكنها أن تحقق مكاسب كبيرة؛ إذ إنها الإصلاحات نفسها التي سبق أن كانت شعوب تلك البلدان تطالب بها. هذا مسعى طويل الأجل يتطلب التزاماً كاملاً من المجتمع وقيادة تدفع بعزم باتجاه الإصلاح ومثابرة مستمرة والعمل على عدة جبهات. هناك بعض المجالات الرئيسية للإصلاحات التي حددناها للمنطقة، مع الاعتراف بأن أولويات الإصلاح تختلف في كل بلد وفقاً لظروفه المحلية:- تحسين الشفافية والمساءلة: يشمل التوسع في إفساح المجال للولوج إلى المعلومات، بما في ذلك معلومات المالية العامة وميزانية المصرف المركزي، وإرساء عمليات شراء عام مفتوحة وشفافة تتضمن نشر العقود وهوية أصحابها والمستفيدين منها (أصحاب الحق الاقتصادي)، وإنشاء ضوابط داخلية صارمة ورقابة خارجية على إدارة المال العام تشمل تدقيقاً مستقلاً، وتعزيز مبدأ المساءلة فيما يخص الشركات المملوكة من الدولة -بالنظر إلى الدور المهيمن الذي تلعبه الدولة في العديد من البلدان في المنطقة– بالإضافة إلى تحسين أنظمة التصريح عن الأصول.- تبسيط التشريعات وتطبيقها بشكل عادل ومنصف: المضي قدماً في المزيد من التبسيط لإجراءات المؤسسات المالية وكذلك القواعد والأنظمة ذات الصلة، مثل القوانين المالية، وتحديثها وتحسين تطبيقها، وبالتالي زيادة كفاءتها وعدالتها. فمن شأن تبسيط إجراءات العمل أن يساعد في الحد من الروتين، ومن مكامن الضعف تجاه الفساد، بالإضافة إلى تحسين مناخ الاستثمار، كما من شأنه تعزيز أطر الرقابة المالية.- تقوية أطر مكافحة الفساد: يشمل ذلك اعتماد قوانين وتشريعات، والاستفادة من الاتفاقيات الدولية ومبادئ الممارسات السليمة، وإنشاء مؤسسات فعالة للإشراف على تطبيقها، والاستمرار في تعزيز أطر مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وتسهيل تبادل المعلومات على المستويين المحلي والدولي.إن جهود الإصلاح ممكن دعمها من خلال زيادة الاستفادة من التكنولوجيا. فعلى سبيل المثال، يمكن استخدام خدمات الحكومة الإلكترونية بالإضافة إلى تطبيقات أخرى لتوفير الوصول الكامل إلى المعلومات، والتصريح للإدارة الضريبية ودفع الرسوم، وشراء السلع والخدمات، والقيام بالتحويلات النقدية عن طريق استخدام تكنولوجيا القياسات الحيوية (البيومترية) ووسائل الدفع الرقمية.سيتعين على كل دولة أن تضع خريطة طريق للإصلاح خاصة بها. وسيواصل صندوق النقد الدولي بنشاط دعم جهود إصلاح وتطوير الحوكمة في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من خلال تقديم المشورة بشأن السياسات ودعم تنمية القدرات، مع التركيز على الحوكمة المالية، وأعمال المصارف المركزية، والرقابة المالية، ومكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، والإحصاءات. يمكن للجميع أن يخرج من تجارب العام الماضي والسير نحو مستقبل أفضل وأكثر شمولية وذلك من خلال العمل معاً والالتزام الجماعي. - مدير دائرة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي
مشاركة :