قدمت الشاعرة العمانية فاطمة الشيدي للمكتبة العربية أكثر من 12 إصداراً متنوعة، ولكن يبقى الشعر أيقونتها الدائمة، فمنذ أكثر من 20 عاماً، تبحر في أعماق المجتمع العماني، باحثة عن خصوصيته، بارزة تراثه وعاداته وتقاليده، حتى وصفها الكثيرون بلؤلؤة الشعر، وعطر القصيدة العمانية، تحمل بين أناملها قلماً تكتب به شهادة غير مسبقة تنتصر فيها للحياة، وتقول في حوارها لـ "الجريدة"، إن الكتابة الباعثة على الأمل هي ما يتبقى لديمومة الحياة... وإلى نص الحوار: ● تنوعت إبداعاتك بين الشعر والرواية والنقد والعمل الأكاديمي، أين أنت من هذه الرحلة؟ - أجد نفسي في كل كتاباتي، ومن الصعب توصيف نفسي وإلا أصابني الغرور؛ إنه تماما كما الشعر الذي هو أجمل من أن يوصف، وكلما نحاول توصيفه نضر به، فكتاباتي خصوصا الشعر بالنسبة إلي حياة، إنه أكبر من النص، فهو تلك التفاصيل التي يجب أن نحياها بعذوبة، وقليلاً ما نجيد توصيفها، أما الرواية فهي بحر لجي وضعت قدمي متأخراً فيه، فقط لأن شهوة الكتابة تأخذني نحو التجريب الذي يقيني من الجمود في الحياة قبل اللغة، لذا فأنا أجرب دائما الحياة بتعدد الاحتمالات، وتعدد الأشكال، أكتب وأعيش، وأعيش وأكتب، والحياة تتضمن فعل القراءة العظيم، قراءة النص، وقراءة العالم، والوجوه والأفكار لمحاولة الفهم، وهذا ما يسميه البعض نقداً، أما أنا فأسميه قراءة، هذا الفعل المبارك الذي عبره أدرّس في الجامعة التي ماهي إلا "مجموعة من الكتب الجيدة"، كما يرى كارل يل، فإذا أنا أقرأ في المساء، وأكتب في الصباح، وبينهما أرعى شؤون المحبة والجمال عبر الحياة والعمل معا. ● بدأت رحلتك مع كتابة الشعر منذ زمن مبكر، فهل لك أن تحدثينا عن البدايات، وعن أهم الموجهات التي دفعت بك نحو معانقة القصيدة دون الأجناس الأخرى؟ - إرهاصات البدايات حالة ضرورية لتكوين الكاتب، ولكنها لا يعتد بها لاحقا، كتبت القصيدة المتأملة، منطلقة من علاقتي بالموروث الشعري الممتد في تراثنا الكبير، وبتحفيز من والدي، ولاحقاً تشعبت مناطق الكتابة لدي في الكثير من الأجناس، وحتى في عبوري لها، أي الأجناس الفنية، ليظل الشعر روحيا كلما أكتب، وخريطتي كلما أعيش. تاريخ عمان ● استوحيت في دواوينك عبق تاريخ "عمان" مدينة النشأة والعلم والأصالة والتراث، فهل لك أن تقربينا من طبيعة تمثلك الشعري في أبعادك الإبداعية المختلفة؟ - لم أكتب شعرا مدائحيا، ولكنني كتبت شعر العشق للوطن والإنسان، كتبت من داخلي على اعتبار الشعر "نافذة على الداخل" كما يقول ساراماغو، وربما كما يقول قيس بن الملوح "لا أكتب الأشعار إلا تداويا"، وإذا سألتني هل استوحيت روح المكان؟ أقول بلاشك نعم، نحن أبناء المكان تعلقنا به يشكل خرائطنا النفسية، الجبل والبحر والرمل، وهي طبيعة المكان العُماني، ولذا فلا يمكن إلا أن تشكل تضاريس الروح، وتضاريس النصوص، لكن بشكل موارب وخفي وحميم كأنه الروح. ● هل الارتكاز على "المدينة" وطرازها البنائي يفسد على الشاعر جوه الحسي؟ - أعتقد أن قلب الشاعر يتشكل حسب نبضات عشقه، كما أن كل شاعر ابن بيئته، سواء كان من الغابات الممطرة أو حتى الصحاري والمدن، لا يمكننا أن نقول إن لوركا ليس شاعرا لأنه ابن غرناطة، فالسياب والجواهري ابنا بغداد، ونزار ابن دمشق، وهذا القياس على سبيل المثال لا الحصر. التراث ● كيف ترين حضور التراث في الأدب العماني؟ - يشكل التراث جزءا مهما من الأدب في عمان، وخلال سنوات قليلة شكّلت المنظومة الفكرية الفقهية والعلمية والتاريخية مدونة الذاكرة العمانية وتاريخها، كما تشكل تفاصيل حياة الإنسان جزءاً من التراث الآني، هذا إضافة الى التراث المادي الذي يشكل خلفية ثقافية يمكن للأدب أن يجعلها فضاء يتحرك عبره نحو قراءات ماضوية أو حاضرة، أو حتى يشكل مهادا لنص تاريخي ثقافي، كالرواية التاريخية التي لدينا الكثير من المواد الخام لبنائها على نحو فريد وخاص، لكن للأسف لاتزال حلما لم يتحقق. ● نود التعرف على مفهومك للحداثة الشعرية، في ظل تدرجك في أدوات الشعر المختلفة، وما الاتجاه الذي يستجيب اليوم لأفق انتظارك الشعري؟ - هذا سؤال واسع، ولكن الحداثة هي التجديد والثورة على الراكد، لذا فكل أدب عظيم هو أدب حداثي، أفقي الشعري محدود برؤيتي من جهة، ومتسع للكون من جهة أخرى، وبينهما آمال وانتظارات ومحبات وشعراء، يأخذون من الجمال والفجائيات المدهشة في المجاز، وهذا هو الشعر. ● شاركت في مؤتمرات أدبية، ولقاءات شعرية.. ماذا قدمت للشعر والشعراء؟ - في البدء مشاركاتي محدودة فعليا، وأكثر ما أضافته أنها هيأت لي لقاءات وصداقات، والتعرف على أصوات جديدة، وخلخلة الكثير من المفاهيم عن كل شيء، وهذا يحدث دائما؛ تجاوز الأنا والحال، والخروج نحو أفق آخر بعيد تماما عن منطقتي السابقة في ولادة جديدة ومستمرة للفكرة وللوعي، يقودني إليها ارتباكي أو قراءاتي أو تأملاتي. ● كيف ترين قصيدة النثر، بعد مرور كل هذه السنوات على استحداث التجربة؟ - أكتب قصيدة النثر، وهي جناحي الذي أحلق به في مناطق مرعبة ولست ممن يهوى الركون والثبات. ● إلى أي مدى استطاعت بالأصوات الشعرية أن تخلصي للشعر في خضم ما يمر به عالمنا من عواصف جامحة؟ - السياسة ليست ضد الشعر والجمال، ولكنها ليست المحرك الأساس له، والشعر السياسي ليس بالضرورة هابطا، أو ضعيفا، فهناك شعراء كبار كتبوا الشعر من منطقة السياسة وأبدعوا أيما إبداع، وخلدوا به، مثل لوركا، ونيرودا، وأمل دنقل، ومظفر النواب، وأحمد مطر، وغيرهم، إنها محاولات مداواة الجرح بضمادة المحبة والجمال، وهذا يحسب لتلك الأصوات. ● خلال مسيرتك الإبداعية حصدت جوائز عدة... فما الذي تضيفنه للمبدع؟ - لم أحصل على الكثير من الجوائز، فقد حصلت على وسام الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي، وجائزة الجمعية العمانية للأدباء والكتاب في مجال النقد، وجائزة أفضل إصدار أدبي في مجال النص المفتوح، والمركز الثاني في الشعر الفصيح في الملتقى الأدبي بصحار، وأرى أن أكثر ما تضيفه الجائزة للمبدع هي الثقة في أن ثمة جدوى من الكتابة، ثمة قارئ، ثمة متابع ومهتم، والقليل من المال الذي قد يدعم المبدع الذي غالبا يكون قد أصابته حرفة الكتابة، وينشر إبداعه فيقرأ له الناس، وهذا أقصى وأجمل وأكثر ما يريد أي مبدع أصابته لوثة الإبداع. ● ما مشروعك الشاغل الآن؟ - لدي مشاريع كثيرة ودائمة، ولدي مقال أسبوعي، وبالتأليف أنا أكتب إذا أنا موجود. نقد الأنساق الثقافية العربية تؤكد الشيدي في أحدث إصداراتها "نقد الأنساق الثقافية العربية"، أهمية تعميق قيمة العمل، ونشر ثقافة الإخلاص، كلٌّ في مجاله، مشيرة إلى أن دور المثقف دائما هو ترسيخ مثل هذه القيم والأفكار التي ترقى بالمجتمعات والإنسان عبر الكتابة الجادة، وعبر إضاءة مناطق العتمة بالجمال والوعي وتشجيع القراءة، وإعادة قراءة التاريخ وتحليل الحاضر لصناعة الفرد الناضج أولا، الفرد الذي هو أساس المجتمعات المتحضّرة والذاهبة في التغيير، والعمل بهدوء وروية لنحاصر المحو الذي يحكم حلقاته على حيواتنا، ولنصنع الذاكرة الجديدة، الذاكرة العصية على المحو بمقتنياتها الأصيلة، وجوهرها النبيل، التي هي نتاجات المرحلة الدقيقة التي يمر بها وجودنا الإنساني في الزمان والمكان بكل ارتباكاتها وأحلامها. والكتاب عبارة عن مجموعة من المقالات الفكرية التي تكشف الواقع الثقافي/ الاجتماعي العربي، والتي سبق لها أن نشرتها في عدد من الصحف العربية، والكتاب محاولة لتفكيك بعض من المسكوت عنه في الثقافة العربية.
مشاركة :