من الآثار العديدة التي تزخر بها مملكتنا الحبيبة وتحديداً منطقة الطائف، قصر الشيخ محمد سرور الصبان المعروف بالقصر الحديدي، وهو أحد المعالم البارزة التي يعرفها أهل المنطقة جيداً. يقع القصر الحديدي في حي قروى بالطائف وهو القصر الوحيد المبني بشكل شبه كامل من صفائح الحديد وألواح الزجاج، ويعود بناؤه إلى العام 1345ه، وقد سكنه محمد سرور الصبان ثم هجره، ويتميز بنمطه المعماري الفريد الذي يجمع بين الطراز المحلي والغربي وتحيط به الحدائق المثمرة من جوانبه المختلفة، وفي الجهة الشرقية من القصر البركة الرئيسية وأشجار الرمان، أما النافورة التابعة للقصر فتقع في وسط الجهة الجنوبية، ويلاحظ ارتفاعه إلى أكثر من طابقين، إلا أن الشرفات المزودة بزخرفة هندسية ونباتية فتكاد تحيط بالقصر من جهاته الأربع. تحفة معمارية فريدة لم يكن القصر الحديدي مخصصاً للسكن كما يعتقد الكثيرون، بل خصصه الشيخ محمد سرور الصبان رحمه الله لكي يكون مجلساً ومكتباً يحضر فيه الاجتماعات واللقاءات العديدة التي لا يكاد يخلو يوم منها بحكم تقلده العديد من المناصب والمهام، أما سكنه فكان في قصر آخر مقابل للقصر الحديدي، وبجواره المسجد المسمى باسمه والذي لا تزال تقام فيه الصلوات حتى يومنا هذا. والقصر الحديدي مبني من صفائح حديدية وألواح زجاجية وقطع رخامية، وقد استقدم الصبان مهندسين من بلاد فارس لبنائه وتصميمه، لذلك فقد كان تصميمه على شكل سفينة ذات طراز فارسي، ويروي البعض أن البساتين الموجودة أمام القصر كانت على شكل أمواج بحرية في تدرجها وتصميمها الهندسي، وعندما تضاء أنوار القصر ليلاً فإن واجهته تُرى عن بُعد، وتبدو كجوهرة مضيئة تتلألأ وسط البساتين والأشجار. أما التصميم الداخلي للقصر فهو تحفة معمارية فريدة من نوعها، فهو يحتوي على ألواح زجاجية وصفائح حديدية ذات تصميم رائع خصوصاً في الأسقف، ويمتاز بالمرايا والإضاءة التي تنعكس كأنها جوهرة مضيئة، فضلاً عن تقنية الصوت الفريدة من نوعها داخل القصر، فالأصوات تعطي صدى وترخيماً بحيث يستطيع الجميع سماعها بوضوح من مختلف الجوانب حتى وإن كان موقعه بعيداً عن المتحدث. ولا يزال القصر من الأملاك الخاصة أي أن زيارته غير مسموحة للعامة، كما لا يزال محتفظاً بأثاثه القديم، وربما يتم قريباً تحويله إلى معلم سياحي بالاتفاق مع ورثة الشيخ محمد الصبان، وفي حال تم ذلك فسيخضع القصر لأعمال الترميم والتجديد بعد أن عانى من الإهمال في الآونة الأخيرة، وبعدها سيتم فتحه أمام الزوار والسياح. نبذة عن الشيخ الصبان والشيخ محمد بن سرور الصبان هو رائد الأدباء والمثقفين في منطقة الحجاز له مسيرة زاخرة في تاريخ العمل الوطني بالمملكة إذ شغل عدة مناصب من أهمها وزير المالية والأمين العام لرابطة العالم الإسلامي. ولد محمد سرور في القنفذة أواخر سنة 1316 هـ، وبعدما اضطربت الأحوال السياسية في القنفذة بسبب سوء سياسة الدولة العثمانية في الحجاز، انتقل والد محمد سرور الصبان بأسرته إلى جدة، وتلقى محمد في كتاتيبها الدروس ومبادئ القراءة والكتابة والحساب في (كتّاب الشيخ صادق)، وبما أن جدة كانت أيضاً غير مستقرة، فاتجهوا أخيراً إلى مكة المكرمة واستقروا بها. ولم يكن التعليم مستقراً في ظل الاضطرابات السياسية التي أثّرت عليه سلباً سواء خلال الحكم العثماني للحجاز أو حكم الأشراف، فلم يستطع محمد بن سرور الصبان أن يكمل دراسته، ولكنه عكف على تعليم نفسه وتثقيفها ذاتياً حتى أصبح من أبرز الأدباء والمثقفين في السعودية، وكون له مكتبة خاصة. مناصبه وأعماله عين مبكراً كاتب يومية بإدارة بلدية مكة في عام 1336 هـ ثم رقي إلى وظيفة محاسب، فرئيس كتاب وعندما آلت الأمور إلى الملك عبد العزيز آل سعود عينه رئيس كتاب بلدية مكة المكرمة في عام 1343هـ، ثم سكرتيراً للمجلس الأهلي وترقى في الوظائف الحكومية حتى عين وزيراً للمالية بعد وفاة الملك عبد العزيز. وفي عهد الملك فيصل عينه أميناً عاماً لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة سنة 1382 هـ / 1962 كما أنشأ مكتبة ثقافية عامة في كل من مكة المكرمة وجدة. ويعتبر الصبّان من رواد وواضعي النوى الأولى لمؤسسات المجتمع المدني، مثل: جمعية الإسعاف الخيري التي تأسست عام 1934م، والتي تعد نواة المؤسسات الثقافية والأدبية في المملكة، فضلاً عن دورها الصحي والاجتماعي، وجمعية قرش فلسطين التي تأسست عام 1935م، ولجنة الدفاع عن فلسطين التي تأسست عام 1937م. وهو أيضاً من رواد العمل الاقتصادي والتنموي في المملكة، بوصفه مؤسساً لعدد من الشركات الاقتصادية الكبرى، ذات الوظائف التنموية المرتبطة بتحديث المجتمع والدولة، مثل: شركة الفلاح للسيارات، والشركة العربية للتوفير والاقتصاد، والشركة العربية للصادرات، والشركة العربية للطبع والنشر عام 1935، وشركة ملح وكهرباء جازان، وشركة الزهراء للعمارة، وشركة مصحف مكة. مؤلفاته ألف محمد سرور الصبان أول كتاب أدبي في الحجاز والمملكة العربية السعودية عام 1344هـ، بعنوان (أدب الحجاز) وحرص أن يجمع في هذا الكتاب أدب شباب الحجاز كما أشار في مقدمة الكتاب بأنه: «صفحة فكرية من أدب الشبيبة الحجازية، شعرها ونثرها»، وبذلك ضم الكتاب تراجم موجزة ونماذج من الشعر والنثر لـ 15 أديباً ومنهم محمد سرور الصبان نفسه. كما أصدر كتاباً آخر عام 1345هـ جمع فيه جملة من الآراء والنصوص النثرية في اللغة والأدب الحجازي تحت عنوان (المعرض)، وقد حرص فيه على مناقشة قضية أدبية ملحة في تلك الفترة، وطرحها على شكل استفتاء، وكان السؤال المتعلق بها: «هل من مصلحة الأمة العربية أن يحافظ كتابها وخطباؤها على أساليب اللغة العربية الفصحى، أو يجنحوا إلى التطور الحديث، ويأخذوا برأي العصريين في تحطيم قيود اللغة، ويسيروا على طريقة حديثة عامة مطلقة»، وكانت الإجابة على السؤال بين التأييد والرفض. ترك الصبان خلفه بمكة المكرمة مكتبة خاصة عامرة بأكثر من 5000 من أمهات الكتب المطبوعة والمخطوطة في شتى مجالات المعرفة، وقد قام ابنه الشيخ عبدالرحمن سرور الصبان بالتبرع بها إلى جامعة الملك عبدالعزيز بجدة. وفي مجال اهتماماته الشعرية، نجد أنه كتب القصيدة العمودية ذات الموضوعات الوجدانية والتعليمية بلغة سلسة ومعانٍ واضحة، ونشر نماذج من هذه القصائد في كتابه (أدب الحجاز) الذي أعاد طبعه في القاهرة سنة 1958 تحت عنوان (أدب الحجاز أو صفحة فكرية من أدب الناشئة الحجازية). وفاته كان محمد بن سرور الصبان من ذوي البصيرة والقدرة على إلحاق صفوة المثقفين والإداريين بدواوين الدولة الناشئة، مما جعل الملك عبدالعزيز يعينه وزيراً مفوضاً من الدرجة الأولى. وحينما تولى الملك سعود -رحمه الله- الحكم، وطلب الشيخ عبدالله السليمان إعفاءه من حقيبة المالية، لم يجد الملك الجديد أمامه أفضل من الصبان ليخلف السليمان. وهكذا دخل الرجل تاريخ بلاده كثاني وزير للمالية، واستمر كذلك إلى حين تشكيل الملك سعود لحكومته الشبابية سنة 1961 التي أسندت فيها حقيبة المالية للأمير طلال بن عبدالعزيز، وكان الصبان وقتها يتلقى العلاج في أوروبا. وبعد خروجه من وزارة المالية ظل الرجل فترة طويلة في القاهرة التي كان من عشاقها إلى أن بلغ الملك فيصل بن عبدالعزيز -رحمه الله- أن السلطات المصرية الناصرية تمارس ضغوطاً على الصبان لينضم إلى المعارضين تحت طائلة تأميم ممتلكاته وإلغاء ما يتمتع به من امتيازات كالحراسة، فدعاه للعودة إلى وطنه، ليكلفه في مايو 1962 بتأسيس رابطة العالم الإسلامي، تطبيقاً لقرار مؤتمر العالم الإسلامي الذي عقد في تلك السنة بمكة، فتولى الصبان منصب الأمين العام للرابطة ما بين عامي 1962 و1970م. وبذل خلال هذه الفترة الكثير من الجهد والمهارة - دون تقاضي أي راتب-، لتحويل الرابطة إلى كيان كبير رغم قلة مواردها. وبعد عامين من تركه لهذا المنصب أي في عام 1972م توفي بالقاهرة على إثر نوبة قلبية داهمته، وتم نقل جثمانه جواً، وصلي عليه في المسجد الحرام، ودفن بمقبرة المعلاة بمكة المكرمة.
مشاركة :