لم يزل في ذاكرتي ما قراته من ربع قرن عن خليل الرواف النجدي الذي التقى ابنه الأمريكي بعد نصف قرن من الانفصال، و كان عرض مجلة المجلة التي نشرت تحقيقا مصورا آنذاك عرضا مثيرا،و خاصة حين ذكرت أن الرجل مثل في هوليود....الخ، الا ان هذا كله ما كان يكفي لان يدعوني لقراءة كتاب لنفس الرجل عن تاريخ العرب الحديث، إلا أن مصادفة جعلتني أقلب صفحات الكتاب، فأُخذت بسلاسة أسلوبه، وجمال سرده، وعذوبة ذكرياته، فالرجل المولود في نهاية القرن التاسع عشر و الذي توفي في بداية القرن الواحد و العشرين ترك التعليم في الثانية عشرة من عمره و كان قبلها يدرس في المدرسة التركية بدمشق، لكنه نفَر من القسوة مع التلاميذ في المدرسة فتركها لمهنة ابائه في تجارة الإبل، و لكنه أولع بالتثقف الذاتي و بدأ بكتابة مذكراته منذ كان في الخامسة عشرة، و تعلم اللغات الانجليزية و التركية، كل ذلك جعل من مذكراته تحفة فنية مرصعة بالأشعار الجميلة و الاستدلالات الراقية. تغطي المذكرات ما ينوف على الخمسمائة صفحة الخمسين سنة الأولى من حياته ،و لحلاوة ذكرياته رغم طولها فإن القارئ المتمرس بالقراءة لا بد أن يتمني لو أكمل الكاتب مذكراته عن الخمسين عاما التالية التي عاشها بعد عودته إلى السعودية خاصة وانه عاشها قريبا من مؤسسة الحكم و ضمن جهازها النخبوي. ولد الكاتب في دمشق و هو من قبائل العقيلات النجدية ، وهي قبائل كانت تعمل في التجارة بين نجد و الحواضر العربية ، فمنها من استقر خارج نجد مثل عائلة المؤلف و منها من عاد إلى نجد ، كان والده اضافة إلي عمله بتجارة الإبل يقوم بتكوين فريق من أبناء القبائل لحماية الحجاج الأتراك من سطو الأعراب خلال رحلاتهم للحج ، و هذا دليل على ضعف السلطة المركزية للدولة العثمانية وعلي الفقر الشديد الذي كانت تعيشه البوادي العربية، يغادر والده دمشق خفية هربا من مهمة كلفه بها جمال باشا السفّاح ، اذ طلب منه استدراج نوري الشعلان شيخ قبيلة الرولة الي دمشق، لكي يقع في أيدي الأتراك فيعاقب علي عمله وقبيلته مع الإنجليز خلال الثورة العربية الكبري ، يهرب والده إلى الكويت فيجد ان حاكمها يعتذر عن حمايته لأنه في عرف الإنجليز جاسوس تركي، خاصة و انه كان من متعهدي توريد الإبل لجيش جمال باشا السفّاح ،و يطالبه الإنجليز بالعمل معهم فيتهرب وبالمقابل يتعهد بتوريد الأغنام للجيش الإنجليزي، يظل على حاله حتى يهرب إلى حائل ، ثم يعود إلى دمشق بعد زوال الحكم التركي. يعمل المؤلف بالتجارة ويصف طرق التجارة بين دمشق و نجد عبر فلسطين و مصر أو عبر العراق و الاردن، و لكنه بعد استقرار الحكم لآل سعود يعود لبغداد لاستعادة أوقاف قبيلته فيمكث ثلاث سنوات دون أن يحقق هدفه، و يتحدث في هذا الجانب عن حكم العراق ايام فيصل الأول الذي فضله الإنجليز لحكم العراق علي أخيه عبدالله الذي كان يطمح ليكون هو حاكم العراق، و يذكر ما قاله له الملك عبدالله بن الحسين من أن أخاه فيصل اضاع حكم سوريا و سيضيع عرش العراق و هذا ما كان، أما المؤلف فيقبل عرض إحدي الأمريكيات للزواج و ينتقل معها لأمريكا، و ذلك في بداية الثلاثينيات و هناك يحصل علي اول بطاقة هجره تصرف لمواطن سعودي، يقضي المؤلف اول عامين من حياته في امريكا في التنقل بين الولايات الامريكية مع زوجته سائحا ،و هنا يتحدث عن طاقات أمريكا الهائلة و شعبها القوي، و تاريخها منذ اكتشافها إلي الاستقلال ،يتحدث عن أمريكا بحب ووله، و رغم ذلك فإن عينه البصيرة لم تخطيء التعرف علي جريمة الأوروبيين بحق الهنود الحمر ، وجريمتهم بحق الملونين، و حين ينفصل عن زوجته الأولي يقوم بالانخراط في أعمال كثيرة ......خبير للأزياء العربية في فيلم أمريكي و ممثل لدور ثانوي فيه، إمام و مدرس للعربية و الدين في مدرسة أقامتها الجالية العربية في ولاية ايوا......ثم ينتقل إلى نيويورك فيصبح رئيس المركز الاسلامي فيها و يؤسس ثلاث مدارس لتدريس الدين و العربية، كما أخذ يرافق الوفود السعودية التي تزور امريكا مترجما و مسئولا عن العلاقات العامة، ثم عمل بالتجارة.... وهكذا وعلي ولع الشيخ خليل بالمجتمع الامريكي فان عدم قدرته علي التكيف الكامل معه أفسدت زواجه الاول و الثاني، فبعد حياة هانئة مع زوجته الأولى لعامين، ذكرته مرة بأنه اذا تركها لن يجد من ينفق عليه ، شعر بالمهانة فترك البيت و طلق زوجته رغم انها انفقت عليه عامين كاملين تنقل خلالها سائحا في امريكا ، رغم أن ذلك كان خطأها الأول والأخير ، زوجتة الثانية أنجبت ابنه نواف و كانت شريكته في التجارة لكنه طلقها لأنها أصرت على رفع دعوى في المحاكم ضد السفارة السعودية التي لم تسدد أثمان مشترياتها من زوجها بحيث عرضته للإفلاس و دخول المستشفى، وأمام اصرارها فقد طلقها ، وقد تحصلت على حكم بأخذ ابنها و منعه من الاتصال بأبيه إلا بإذن القاضي. حياة ثرية، أحد أسباب ثرائها كان دور الصدفة و جرأة خليل في المغامرة ،زوجته الأولى كانت مولعة بالشرق العربي وكانت رغبتها فيه ناشئة من كونه يمثل التعبير الانساني عن المشرق فعرضت عليه الزواج، بعد الطلاق تزوجت زوجته الثانية من الشاعر المصري أحمد زكي أبوشادي الذي كان احد اقطاب جماعة ابولو الشعرية فتبني ابنها نواف، أما زواجه الأخير بعد وصوله الخمسين من العمر إلى زوجته المصرية التي وقع في حبها منذ ان رآها تجالس قريبة لها على منضدة مجاورة لمنضدته في فندق سميراميس فتبعها و عرف منزلها ثم تقدم لخطبتها. هيأ له مناخ ما قبل الحرب العالمية الثانية في أمريكا فرصا من الصعب أن تتهيأ لأحد ، علاقته بآل سعود في بداية الدولة أعطته فرصا إضافية لا تتهيأ لأحد في العادة، و هذا كله أعطي مادة شائقة للقاريء و كتابا رشيقا علي ضخامته، و سردا ممتعا على طوله.
مشاركة :