اطَّلعتُ على مقال الدكتور الفاضل علي محمد فخرو -وزير الصحة ووزير التربية والتعليم السابق- الذي أكنّ له كل التقدير والاحترام، والمنشور مطلَع هذا الشهر بعنوان (هذا المسار البطيء المتعثِّر)، والذي تناول فيه بإسهاب إخفاقات منظومة (مجلس التعاون) بعد أربعين عامًا من تأسيسها. وإنني وإن كنت أتَّفق معه في عدد من النقاط التي أوردها سعادته في مقاله المهم، إلا أنني أختلف معه في أخرى ألخّصها في الآتي: أولاً: من المؤكَّد أن أهم أهداف مجلس التعاون هو الوصول إلى الوحدة التي كانت قاب قوسين أو أدنى من أن تَّتحقَّق لولا ثورات (الربيع العربي)، وتورّط عدد من الدول الحليفة والمجاورة في مشاكله، وتدخلها في إسقاط بعض الأنظمة العربية، حيث كانت مسيرة المجلس تسير بشكل جيد -وإن كان بطيئًا إلا أنه في الاتجاه الصحيح- لإزالة كل معوقات المواطنة الخليجية التي تمَّ التغلّب على الكثير منها على صعيد العمل الاقتصادي والتجاري والصحي والبيئي والتعليمي وغيرها، بينما ظلَّ الجانب السياسي والأمني والقانوني والنفطي في إطار الحَدّ الأدنى من الاتفاق، وهو ذات إطار السياسة الأوروبية تمامًا، حيث ظلَّت -ولم تزل- هذه الموضوعات جزءًا من السيادة الوطنية التي حافظت عليها كل دولة، فكان التركيز على (الوحدة الاقتصادية)، وهو ما عمِلَت عليه دول المجلس كأساس للعمل الخليجي المشترك، وتؤكِّد على ذلك (رؤية الملك سلمان بن عبدالعزيز)التي تمَّ إقرارها في قمة الرياض في (ديسمبر 2015م)، والتي اتُخذت أساسًا لمستقبل عمل المجلس في (قمة العُلا) الأخيرة. ثانيًا: لقد عجزت كل التجارب الوحدوية العربية التي سبقت مجلس التعاون من الصمود أمام أول التحديات التي واجهتها، وانهارت بعد فترة وجيزة من قيامها لأسباب متعددة، بعكس (مجلس التعاون) الذي صمد وقاوم واجتاز كل التحديات الخطيرة التي واجهته منذ تأسيسه في (مايو 1981م)، وهذا في حد ذاته إنجاز باهر ومهم مقارنة بما مرَّ على الأمة العربية من مشرقها إلى مغربها من تحديات وتهديدات لسيادتها الوطنية استهدفت إسقاط أنظمتها الشرعية القائمة، خاصةً إبّان موجة (الربيع العربي) التي فُصِّلت لإسقاط (النظام العربي) ككل دون استثناء، وإلا فمن يصدِّق انهيار أنظمة الحكم في مصر وتونس وليبيا واليمن، وتدمير سوريا والعراق، والتي كانت تشكِّل ركائز النظام العربي منذ خمسينيات القرن الماضي وقادتها أحزاب أيدولوجية كالقوميين العرب والبعثيين والماركسيين، كما أن هناك فريقًا آخر من الأنظمة العربية الأخرى التي كانت أقل عرضة للانهيار التام كالنظام الحاكم في لبنان واليمن اللذين لم يتمكنا من الصمود أمام أذرع إيران وتدخلها في شؤونهما الداخلية وتمكين أحزابها الموالية لها كحزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن من السيطرة على مفاصل الدولة واختراق سيادتها الوطنية، ودخول الأخيرة في الحرب القائمة بتمويل إيراني. وعلَّ أهم وأبرز مثال على صمود دول مجلس التعاون ووقوفها صفًا واحدًا أمام موجة الربيع العربي هو (المارشال الخليجي) الذي دعم وموَّل مشاريع بني تحتية حيوية في كلٍ من مملكة البحرين وسلطنة عُمان عام (2011م)، ومشاركة قوات درع الجزيرة لدعم مملكة البحرين خلال الأحداث المؤسفة التي شهدتها في (فبراير 2011م) لحماية مؤسساتها وأجهزتها الحيوية، وضمن التحالف الدولي عام (1990م) لتحرير دولة الكويت من الاحتلال العراقي الغاشم. فما هو تفسير الدمار الشامل وتشريد شعوب الدول العربية العظيمة تاريخًا وحضارةً وإذلالها ليلجأ الملايين منها إلى الدول الأوروبية المجاورة هربًا من القتل والتدمير المبرمج على أسس طائفية ودينية تمَّ استغلالها لتأجيج ثورات (الربيع العربي)، في الوقت الذي صمدت دول مجلس التعاون أمام ذلك المد الهائل من خطة (تغيير النظام الحاكم من الداخل) والمدعومة من قوى دولية معروفة صديقة وحليفة ودول إقليمية مجاورة تسعى لنشر المذهب الشيعي في دول المجلس والدول العربية ليستقيم لها حلم إقامة أول نظام شيعي عربي في منطقة الشرق الأوسط لأول مرة في التاريخ بعد سقوط الدولة الفاطمية الشيعية في مصر عام (1171م). ثالثًا: بخصوص ما أثاره الدكتور علي محمد فخرو بخصوص (متابعة تنفيذ قرارات القمم الخليجية)، فإن هناك لجنة وزارية تتابع تنفيذ هذه القرارات، وتُعتبر المملكة العربية السعودية ومملكة البحرين دولة الإمارات العربية المتحدة من أكثر الدول تنفيذًا لها، أما فيما يتعلَّق بـ (الأمانة العامة لمجلس التعاون) فهي فعلاً سكرتارية للمجلس الأعلى والمجلس الوزاري، ولا يمكن أن تكون كالأمانة العامة للاتحاد الأوروبي، نظرًا للفارق في هيكلية النظامين، على اعتبار أن التجمّع الأوروبي هو عبارة عن اتحادٍ متكامل، ولأمانته العامة صلاحيات واسعة في جميع القضايا السيادية التي تمَّ تحديدها كالدفاع والقضاء والسياسة النفطية، واستثناءً ما يتمَّ الاتفاق عليه بالإجماع وتقوم الأمانة العامة بالتنفيذ، مع وجود عقوبات تُفرَض على الدول التي لا تلتزم بالتنفيذ في غضون الفترة الزمنية المتَّفق عليها بين الدول الأعضاء. رابعًا: فيما يتعلَّق بالإجماع الخليجي، فقد تمَّ التخلي عن هذا المبدأ منذ قمة الرياض في (ديسمبر 2015م) التي أُقرَّت فيها (رؤية الملك سلمان بن عبدالعزيز) والتي تتلخَّص في (إمكانية الاتفاق بين عدد من دول المجلس على أيّ إجراءات تكاملية تراها في إطار المجلس على أن تتبعها بقية الدول متى ما كان الوقت مناسبًا لها). خامسًا: بخصوص (التجارة البينية والاتحاد الجمركي)، فهي مطبَّقة على أرض الواقع، فقد دخلت منطقة التجارة الحرة حيز التنفيذ في (مارس 1983م) واستمرت حتى عام (2002م)، ليحلّ محلها (الاتحاد الجمركي) عام (2003م) الذي أدى إلى تعزيز التجارة البينية بن دول المجلس، وارتفاع حجم التبادل التجاري بينها فور تطبيق الاتحاد الجمركي من أقل من (ستة مليارات دولار) عام (1983م) إلى (15.1 مليارات دولار)، كما أن هناك مشاريع توقَّف تنفيذها في (يونيو 2017م) بسبب الأزمة الخليجية الأخيرة، رغم أنها كانت شبه جاهزة للتنفيذ لاستكمال المواطنة الخليجية الكاملة كالرابط الكهربائي وإنشاء سكة الحديد التي تربط عواصم دول المجلس. سادسًا: عالجت (رؤية البحرين) التي أطلقها جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، وبُحثت في قمة الكويت عام (2008م)، وتمَّ إقرارها في قمة أبوظبي عام (2009م)، الكثير من القضايا التي تنصبّ في تطوير مجلس التعاون وتفعيل أدائه على مستوى العمل الخليجي المشترك لاستكمال المواطنة الخليجية، وتضمنت تعيين وزير مجلس التعاون لمتابعة شؤون المجلس بصورة مستمرة . سابعًا: وللتاريخ، فقد تمكَّن (مجلس التعاون) من تحقيق المواطنة الخليجية والمساواة بين مواطنيه في عدد من الأنشطة منها (التنقل والإقامة، والعمل في القطاعات الحكومية والأهلية، والتأمين الاجتماعي والتقاعد، وممارسة المهن والحرف، ومزاولة جميع الأنشطة الاقتصادية والاستثمارية والخدمية، وتملّك العقار، وتنقل رؤوس الأموال، والمعاملة الضريبية، وتداول وشراء الأسهم، وتأسيس الشركات، والتعليم والصحة والخدمات الاجتماعية). إذن، نحن أمام (مجلس تعاون) استطاع -طوال تلك السنوات- أن يقف بكل قوة وصلابة أمام كافة الأخطار، ويواجه كافة التحديات، ويحقِّق الإنجازات الكبيرة التي تستحق التقدير والاعتبار، ولا شكّ بأن للمصالحة الخليجية الأخيرة دورًا كبيرًا جدًا في تحقيق المجلس لمزيد من التقدّم، وستعيد بناء جسور الثقة بين دوله، وسيعود العمل الخليجي المشترك إلى مساره الطبيعي، وستُستكمل المواطنة الخليجية التي هي الأهم من أجل بناء مجتمع خليجي جديد قائم على الثقة والشفافية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، خصوصًا بعد قرارات (قمة العُلا) التي أقرَّت عددًا من القضايا المهمة، ومنها (إنهاء القضايا العالقة بين الأطراف ثنائيًا). وجميعنا نسأل الله العون والتوفيق من أجل مجلس تعاون قوي يحمي أمنه واستقراره ومصالحه ومصالح شعوبه أمام هذا الكم الهائل من التحديات والمخاطر. المحلل السياسي للشؤون الإقليمية ومجلس التعاون
مشاركة :