أين تكمن ثقافة المنطقة وشعوبها وقيمها وحقيقتها في الهويات المجتمعية أم في هوية الدولة القومية؟ هل يمكن أن يصبح ما صنعه النظام العالمي لتحقيق هيمنته وسيطرته بيديه عائقًا ومشكلة له كالدولة القومية؟ كيف يمكنها إصلاحها أو إجراء التغيير اللازم أو استبدالها بنظم أخرى للإدارة تحقق الحرية والديمقراطية والرفاه ؟ هل الحفاظ وحماية الهويات الأصلية المجتمعية المرنة وتجديدها وفق العلم المعاصر وتجاوز هوية الدولة القومية المتزمتة والصارمة هو مدخل لحل أي قضية وطنية؟ مع قطع رأس الملك لويس السادس عشر في فرنسا بمرحلة اليعاقبة في عام 17٩2م، بدأت مرحلة الدولة القومية وعلى أثرها وبها تم إضعاف أغلب القوى المرشحة للوقوف في وجه هيمنة بريطانيا، وتم تقطيع وتهديم الإمبراطوريات من الأسبانية إلى إمبراطورية النمسا_المجر وروسيا وحتى الصينية واليابانية والهندية وأخرها العثمانية وكذلك تقطيع أواصر وتقسيم وتفتيت المنطقة وشعوبها حسب وظيفة كل دولة مستحدثة، وما زال أغلب الشعوب و الدول في المنطقة والعالم مفتقدة من يومها وإلى الآن لقوتها لعدة أسباب يرجع أكثرها تأثيرًا لإنشاء وفرض وتمكين الطبقى الوسطى الليبرالية والدولة القومية التي تحتضنها والممهورة بالخاتم البريطاني والهولندي واليهودي الذين لهم التاثير الأكبر في رصف الأرضيات السياسية والأيدولوجية للثورات العالمية التي غيرت مسار التاريخ والتي نهل منها معظم شعوب ودول العالم.والأكثر دهشة ًهو أنه عندما أصبحت الدولة القومية مشكلة وعائقًا امام درب الهيمنة العالمية بزعامة أمريكا وقبلها بريطانيا، رأينا وسنرى النهايات التراجيدية المأساوية لبعض حكام المنطقة وأحداث ما قيل أنه "الربيع العربي" الشبيهة بحالة لويس فرنسا وكل هذا مع معاناة الشعوب التي تتزايد يوميًا دون حلول لقضاياه. إن القوموية التي لاتستند إلى الحقيقية والعيدة عنها، لم تكن ولن تكون عامل استقرار وأمان وثبات وقوة واستمرار بل ستكون عامل قلق وتوتر واضطراب وهي هشة وضعيفة وقابلة للإنهيار والإنفجار في اية لحظة. وقد شوهد في ممارسات العديد من المستبدين مثل هتلر كأوضح مثال وكما في سلوك السلطات التركية والإيرانية وغيرهم. بينما الحدود المرسومة و المناطة بالعلياء والمجد و بالقدسية من وجهة نظر الدولة القومية، هي محض كذب وفبركة مصطنعة وتضليل وخداع، حددت بموجب مصالح الهيمنة العالمية ومصطلحات الوطن والمواطنة والقوم الموجودة فيها ، لايمكننا البحث فيها خارج إطار المصالح عينها، بصفتهم رموز الثيولوجيا الجديدة ومباركة الإله المهيمن الجديد.يبقى تكامل ثقافة منطقتنا( الشرق الأوسط وشمال أفريقيا) المتنوعة والمتعددة ووحدته الكلية على تناقض أساسي مع تقسيمات الدولة القومية لنظام الحداثة المهيمن الحالي. فالحداثة تلعب دور تنميط وتجانس وقطعنة(جعله قطيع) وهوأشبه بالقفص المفروض على وقائع الحياة المشتركة وعلى المواطن الحر وذلك عبر وسائل القوى المختلفة من العسكرية و الأمنية والإيدولوجية والإعلامية والتكنولوجية والاقتصادية لجعل الحياة بلون واحد وبلبوث الحداثة في كل المناطق ولدى أغلب الشعوب.لكن لن تتكلل بالنحاج السعي المتواصل للقوى المهيمنة في ترك الوقائع الإجتماعية للسبات والتنويم وفرض تواريخ عليها، فالوقائع الاجتماعية ليست بلاحقيقة مثلما لم تك بلا تاريخ في أية مرحلة كانت فهي قادرة على العيش والتعبير عن حقيقة وجودها وجوهرها ضمن أنسجة المجتمع الديمقراطي حالما تتوفر الظروف المناسبة.يشكل المجتمع الديمقراطي أطروحة العصرانية الديمقراطية (المقترحة من قبل القائد عبدالله أوجلان) المضادة في وجه هيمنة الدولة القومية المفروضة على الثقافة الاجتماعية المشحونة والمشبعة بالتفاعل والتكامل التاريخي للمنطقة.تتطور الدولة القومية عبر القانون المسماة بالقانون الوطني (الذي يعبر عن ترتيب وإجراءات القوة وتنظيمها) وليس وفق المعاير الاجتماعية بل وفق الرؤية السلطوية ومصالحها. ويشهد القانون أقصى درجات التلوين والتطور ضمن الدول حيث تنشأ الدولة القومية الحكم البيروقراطي الصارم بدل المجتمع السياسي الحي والنشط والحر. و يظهر إنكار المجتمع لذاته ولوظائفه في عدم فاعلية النظام الديمقراطي ، ومهما يكن هناك البرلمان والأنتخابات وبعض الشكليات والمؤسسات الفارغة من المضمون، إلا أن ما ينفذ و يسري هو الدستور غير المكتوب لبنية حكم الفاشية و الأوليغارشية البيروقراطية والدولة العميقة. فسلطة الدولة القومية المتغلغلة حتى الأوعية الدقيقة في المجتمع وحكوماتها وأحزابها ، تبسط نفسها تحت الغطاء القانوني على أنها حكم عام وطبيعي . بينما الأنتخابات والبرلمانات وفي أغلب الأحيان والأماكن لاتعبران عن معاني بارزة سوى لعبهما دور التمويه و الطلاء لصقل شرعية هذا الحكم والسلطة أو ذاك، ويجعل المجتمع والشعب والأمة مرادفات مطابقة للدولة القومية . لذا ما من سبيل سوى اللجوء والدفاع عن المجتمع الديمقراطي في وجه هذا الواقع المهيمن، الذي جعله النظام الرأسمالي عالميًا ومعممًا .قد يضعف نسج المجتمع الأساسية الديمقراطية (الأخلاقية والسياسية) نتيجة إعتداء الدولة القومية عليها وغيرها من الظروف وقد تصبح مهارته وأدائه مشلولا وواهنا لدرجة العجز ولكنها لاتفنى بتاتًا، فالإفناء أو القضاء عليها غير ممكن سوى بإخراج المجتمع من كينونتة وماهيته. وتبقى الأخلاق والسياسة أداتا الحقيقة الاجتماعية المنيعتان. وميادين الحياة التي تتواجد فيها الممارسة الاخلاقية والسياسة تكون أنماط تعبير الحقيقة عن ذاتها قوية وواضحة ولذلك يعمل المهيمنون والسلطويون على تحجيم ساحة السياسة والحرية وضرب الأخلاق. لا يستطيع الأفراد والمجموعات اللأخلاقية واللا سياسية إبداء أي صنوف المقاومة، لأنها معتادة على الخنوع والذل . ولا زال عناصر المقاومة في منطقتنا قوية رغم كل ماحصل ويحصل، والمقاومات ذات الأبعاد الوطنية ومقاومة الناس المجتمعية الذين هم خارج السلطة بمقدار ما تعبر عن رفض الدولة القومية وممارساتها فإنها هي تدعوا لإنشاء المجتمع الديمقراطي. والتفاعل والتطورات ضمن أبعاد ثقافة المنطقة تشكل غنى وطاقة كامنة للبناء وللعصرانية الديمقراطية وليست مؤشر تخلف ورجعية للعصور الوسطى كما تصفها الأستشراقية. ولعل مقاومة الشعب الكردي بريادة حركة حرية كردستان في الدول الأربعة التي تم تقسيم كردستان عليها وبمشروع الأمة الديمقراطية وكونفدرالية الشرق الأوسط الديمقراطي خير دليل على قدرة شعوب المنطقة في التفاعل و المقاومة و العمل الجاد لبناء مجتمع ديمقراطي وبديل للدولة القومية ولنظم الهيمنة والتسلط والتدخل. بمقدار ما يتم من تجانس و تنميط الغنى الثقافي للمنطقة أين كان، فإنه يعرى ويجرد بالمثل من معانيه ومن التعبير عن نفسه كحقيقة. أما إجراءات وحكم الدولة القومية في إنتاج مواطنين متجانسين ومن نمط واحد فهو على الصعيد الجوهر و المعنى يتعدى كونه عدة قوالب دوغمائية جاهزة و محفوظة عن ظهر قلب ومفتقرة لطاقتها الكامنة لكنها مع الزمن تغدو الفردية والأنانية ذهن المواطنين، عندها يكون الأفراد معطوبين وخالين من الحقيقة وينظرون إلى المراسيم الرسمية على أنها أشكال العبادة الجديدة الواجبة طاعتها.2_مقابل المادية والوضعية( POSITIVISM) والفصلية للدولة القومية يتخذ المجتمع الديمقراطي جانبه الروحي والأخلاقي والتكاملي كفلسفة للحياة أساسًا من حيث معناها كعلم وحكمة ومعرفة وموافقة الحق . فالعلمانية والدينوية للدولة القومية لاتختلفان كثيرًا على صعيد المبدأ والسلوك عن الدوغمائيات الدينية . فالتستر خلف قناع الدولة القومية لايمكننا من التخلص من الدينوية، بل يجري تغيير الشكل والظاهر فحسب، ودوغمائيات الدولة القومية التي تنتجه العلموية والوضعية سريعا أكثر صرامة وتزمتًا من الدوغمائيات الدينية وقوالب العصور الوسطى. وحقيقة الحرب والإبادات والاستغلال الناجم عن الدول القومية تؤكد ذلك .ينبغي الإدراك أن الثيولوجيا( THEOLOGY ) وجدت أساسًا كأداة للشرعنة الأيدولوجية للسلطة وللمدنية والطبقة و الدولتية. وبما فيها النظام العالمي الحالي( الحداثة الرأسمالية )، وهي تتنامى كمضاد للعلم والحكمة والوعي والفهم القائم في المجتمع الديمقراطي. حيث أن التعبير الاجتماعي الذي يفرض من الخارج في هيئة ثيو(الإله) ولوجيا( العقل) فماهو سوى دولة وسلطة الملك أو السلطان_ الإله. والعجز عن التعبير عن هذه الحقائق بوضح وشفافية يعزى إلى اعتماد السوسيولوجيا الغربية على المضمون الطبقي_ الدولتي_السلطوي_الذكوري .وانتقلت الثيولوجيا إلى مراحلها الأخطر مع الخطوة الوضعية والدولة القومية. وعندما صارالإله دنيويًا أدى إلى استغلال ونهب وقمع وإبادة وإراقة الدماء اكثر بألف مرة عندما كان سماويًا، وخاصة مع رؤية إله الدولة القومية في القرنيين الأخيرين. والذي من مميزاته الحدود، القوم، العلم، النشيد الوطني والقومي، الطبقات الوسطى، البيروقراطيات والمواطنون النمطيون والمكررون. والدولة القومية تحت هذه الصفات حققت الحروب والإبادات والتطهير العرقي والتغيير الديموغرافي وعمليات الاستغلال والنهب بما لايشهد التاريخ له ندًا ومثلًا كما في تركيا واغلب مناطق العالم. وعليه ليس هناك حاجة للعيش ضن هكذا إلهيات وصفات ودول قومية. وعلينا معرفة أن الصراع ضمن ثقافة الشرق الأوسط في جوهره هو تناقض وصراع بين عالم المدنية الدولتية و السلطوية من جهة ومن جهة أخرى عالم الحضارة الديمقراطية وعناصرها وأهمها المجتمع الديمقراطي. ومقابل إرغامات الحاكم و الملك والسلطان المقحمة في مصطلح الإله، فإن الدفاع عن الهوية المجتمعية البارزة بنحو أفضل من التصوف يعد الشأن الأصل للحكمة والفهم وبذلك يتم الدفع عن المجتمع الديمقراطي والبحث عن الحكمة والكرامة والفهم والحرية والرفاه في المجتمع. 3_المجتمع الديمقراطي الحر لايعني إنار المجتمع الوطني أو تهديمه. فتغيير المجتمعات لأشكالها باستمرار، إنما هو بحكم طبيعتها. وتنوع الأشكال دليل على غنى الحياة وثرائها . ماتتم مناهضته ورفضه هو التزمت وإنغلاق الأشكال الاجتماعية على ذاتها وصرامتها ومطلقيتها. وبقدر ماتكون الهويات المجتمعية منفتحة ومرنة ومعبرة، فإنها تكتسب التنوع وبالتالي تحيا حرة وديمقراطية بالمثل. في حين مفهوم الهوية في الدولة القومية أحادي ومنغلق وصارم ومتزمت، وتنبع منها الفاشية اللاأخلاقية. وهكذا إدراك للهويات المجتمعية يعاش داخل المجتمع الوطني وخارجه ضمن حرب دائمة. إذ لامهرب من حروب كهذه عندما تتواجه الهويات المجتمعية والمنفتحة والمرنة مع إرغامات الهوية ذات الطبيعة الزائفة والمنغلقة والصارمة. والحروب الوطنية والدينية على السواء تعبر عن صراع هذه الهويات. والحروب الطاحنة في القرنيين الاخيرين في الشرق الاوسط ذات الهوية الدينية والوطنية الكثيفة إنما على صلة بمفهوم الهوية الذي أراد نظام الهيمنة العالمي الحالي (الحداثة الرأسمالية) فرضه لخدمته. وتكون هويات الدول القومية المارة من مصفاة هيمنتها، من حيث المضمون بمنزلة امتدادات و توابع وعملاء للهوية المركزية التي تعمل دوما كمقر مركزي، وتهتم بشؤون مستعمراتها ووكلائها عن كثب وتعيد فرزها وإعادة ترتيبها من جديد إن اقتضى الأمر.هويات الدولة القومية أصبحت بلاء قائم في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وباتت عائقا أمام العولمة التي تريدها الرأسمالية العالمية. والمشكلة وعدم قبول الدولة القومية المتزمتة تكمن في بنيتها وذهنيتهاوسلوكها. وهذا تناقض رئيسي يعانيه النظام في داخله. ولكنه عاجز عن إيجاد الحل. وعليه تزداد التناقضات بين الدول القومية والرأسمالية العالمية، مع يقين الرأسمالية استحالة قضائها على الدولة القومية التي تدين لهل الفضل الكبير في توسعها، في حين تواجه مقاومة ورفض الدول القومية عندما تريد إجراء إصلاح لها . فالشرائح التي باتت مترهلة و بدينة بإفراط بليغ تقاوم تجاه رأسمالية أكثر عقلانية. ونتيجته تكون الحروب والتغير الديموغرافي والتطهير العرقي والإنصهار وحتى الإنقلابات . ومثلما ينبثق مشروع الشرق الأوسط الكبير أو الجديد أو إيجاد أي نظام إقليمي جديد مفروض من الخارج من هذه الحقيقة، بإمكاننا رؤية هذه الحقيقة لإدراك العجز في تنفيذ هكذا مشاريع والتناقضات فيها والإستفادة منها.وعليه في منطقتنا لايمكننا التعويل على احتمال إيجاد حل جذري ومقبول وناجح لأية قضية وطنية مثل القضية الكردية والقضية الديمقراطية والقضايا الاقتصادية والأمنية دون تخطي هوية الدولة القومية المنغلقة والصارمة وذهنيتها وسلوكها، سواءً انعكست من التطور التفاعلي و التكاملي للثقافة التاريخية الاجتماعية أم من التناقضات الداخلية للحداثة الرأسمالية العالمية. فجميع الجهود المبذولة لهيكلة الدولة القومية في العراق و سوريا وأفغانستان وسوريا و اليمن والصومال و آرتساخ وليبيا وبلدان الربيع العربي وغيرهم من دول المنطقة والعالم، تذهب هباء وبلا جدوى سوى تعميق الأزمات وتكاثرها ولن تستطيع الدول المهيمنة العالمية والإقليمية ومنها إسرائيل و تركيا وإيران والعديد من الدول حل اي قضية ضمنها وخارجها لأنهم لم يتجاوزا هوية ومنطق وذهنية الدولة القومية الإقصائية المفروضة.ولو دققنا في الدعم الذي تتلقاه أي من الدول القومية في المنطقة والذي يتجاوز الدعم الذي قدمته أمريكا لكل أوربا بعد الحرب العالمية الثانية ضمن مشروع "مارشال" لأجل هيكلة أوربا المنهارة، لعرفنا الفارق الكبير وأدركنا حقيقة الافلاس والازمة في نظام الحداثة. حيث لايمكن للشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلا ان ينتج الأزمات والحروب بهذا الكم الهائل من الدول القومية البعيدة والمغتربة عن منطق وجوهر وقيم الحياة. مع علمنا أن الازمات المعاشة لاتتعلق فقط بنظام الحداثة المعاش في القرنيين الأخيريين بل هي أزمات بنيوية وحروب متعلقة بالسلطة و بالمدينة والطبقية والدولتية المعمرة لألاف السنيين وتجاوزها ممكن ببناء المجتمع الديمقراطي الحر.
مشاركة :