المراعي الجديدة للديكتاتورية الرقمية

  • 1/21/2021
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

كانت هناك فترة خلال الأيام الأولى للوباء ظهرت خلالها تقارير متفرقة هنا وهناك عن تحسن في جودة الهواء والماء في جميع أنحاء العالم، وذلك مع انخفاض الإنتاج وحركة المرور بشكل مفاجئ. وجرى تداول صور قطعان من الماعز الجبلي والخنازير البرية تستكشف شوارع مدن خالية من الحركة، وحركة كثيفة للدلافين المنتشرة في مضيق البوسفور. كان بعض هذه الصور لا يعدو كونه خدعة، لكنها جميعاً تحدثت للحظات عن فكرة أن حالة الاضطراب السائدة نتجت عن نوع من عدم التوازن في العلاقة بين الإنسان والحيوان، وأنه ربما يثمر إعادة تعديل في العلاقة لصالح الطبيعة.في إطار هذه الآمال والتمنيات، اضطلعت البيئة بدور مألوف؛ كملاذ يضمن سلامة الإنسان. وتمتلئ نماذج التفكير اليوتوبي بهذه الخيالات. على سبيل المثال، عاش قوم الهايبربوريان في الأساطير الإغريقية حياة مثالية وراء رياح الشمال في نبع دائم، وزرع سكان «اليوتوبيا» لتوماس مور حدائقهم بعناية كبيرة بحيث يكون لديهم كل من الكروم والفواكه والأعشاب الزهور فيها. في وقت لاحق، رسم ويليام موريس الطبيعة - التي أصبحت محسوسة تقريباً على الجدران في قاعات الاستقبال المؤثثة جيداً - في خياله الطوباوي الرافض لمصانع المجتمع الصناعي. واليوم، يبدو الطوباويون، الذين يحلمون بتحويل مراكز التسوق إلى أراضٍ رطبة تعج بالنباتات والحياة الطبيعية، متشابهين في الروح.من وجهة النظر هذه، تضمن الطبيعة استمرار الدورات المختلفة والتكاثر والسير في مسار يمكن التنبؤ بمستجداته، وذلك على عكس حركة التاريخ بما يحمله من تقلبات وانعطافات مفاجئة. إلا أنه بطبيعة الحال هذا محض وهم، ذلك أن الطبيعة تخضع إلى حد كبير لحركة التاريخ، فما بدا أبدياً إلى حد ما هو الآن في طور الانقراض أو الذوبان الذي يتعذر إيقافه. المؤكد أن الطبيعة ليست مستقرة ودائمة، وإنما دائماً في حالة تغير مستمر. في الوقت ذاته، فإن هذا ليس شيئاً منفصلاً عن البشر، وإنما على صلة بجوهر البشرية ومساعيها المستمرة بلا كلل.على سبيل المثال، يتخذ التدخل البشري في الحياة النباتية والحيوانية صوراً شتى. ولننظر إلى الماشية. تاريخياً، خدمت أجسام الأبقار، كمواضيع اختبار، مختبرات للتدخل الحيوي المستقبلي وجميع أنواع تقنيات الإنجاب. وتتجمع الأبقار اليوم معاً في مزارع ضخمة تتولى الإشراف عليها أنظمة رقمية، بما في ذلك أنظمة التعرف على الوجه. وتعد هذه المصانع الجديدة بمثابة حظائر مكيفة حيث تقوم الآلات الرقمية بمراقبة وتسجيل كل حركة للقطيع وانبعاثاته وإنتاجه. ويمكن داخلها تتبع مصدر كل جرعة من الحليب.ويتجاوز الأمر المراقبة، ففي عام 2019 جرى داخل مزرعة بحثية تدعى «روسمولوكو»، تقع بالقرب من موسكو، ربط سماعات الواقع الافتراضي بالماشية. وجرى توجيه الأبقار، من خلال الرسوم المتحركة الرقمية التي جرى عرضها أمام أعينها، لتتخيل أنها كانت تتجول في حقول صيفية مشرقة، وليست شتوية قاتمة. وجرى تصميم الابتكار، الذي كان ناجحاً على ما يبدو، لدرء التوتر: فكلما كانت البقرة أكثر هدوءاً، زاد إدرارها للحليب.في واقع الأمر، استخدام نظارات الواقع الافتراضي الرياضية للبقرة يبدو أمراً كوميدياً بقدر ما هو مأساوي. كما أن هناك رعباً من أن تكون مثل هذه الابتكارات بمثابة تنبؤ بما سيكون عليه شكل مستقبلنا. على أي حال، ما مدى اختلاف تجربتنا؟ نحن نخضع لأجهزة تتبع المشاعر، ونتولى تسجيل الدخول إلى أجهزة المعلومات الارتجاعية البيولوجية. كما نسجل أنفسنا في تطبيقات وأجهزة تتبع وتعقب. كما أننا نترك أعين المعلنين تراقبنا باستمرار ويخزّن مصممو الخرائط إحداثياتنا.هل يمكن ذات يوم أن نصبح مثل الأبقار، بحيث تتلاعب بنا الآلات، تتأرجح عواطفنا تحت سماء مشمسة دائماً، من دون أن نعرف حتى إننا داخل مصفوفة؟ هل سينخدع المنبوذون والعاطلون عن العمل والفائضون عن الحاجة بالاعتقاد بأن العالم جميل، وأنهم يعيشون في أرض اللبن والعسل، فقط لأنهم يتفاعلون بشكل ضئيل داخل دور رعاية؟ ربما ننطلق كالأنعام قريباً داخل المراعي الجديدة للديكتاتورية الرقمية، نمرح ونحن مقيدون من دون أن ندري.وربما يكمن جزء من المشكلة في مفهوم الطبيعة كشيء خارجي وخيّر ومريح. جدير بالذكر في هذا الصدد أن تيودور أدورنو، الفيلسوف الألماني الشهير والناقد الثقافي في منتصف القرن العشرين، ذكر في كتابه «النظرية الجمالية»، كيف أن الطبيعة التي أفلتت من الزراعة البشرية - جبال الألب أو المناظر الطبيعية للقمر - تشبه الأشكال غير الطبيعية لجبال النفايات الصناعية، وهي مرعبة بنفس القدر.من وجهة نظر أدورنو، فإن الطبيعة الشاعرية الأصيلة الجميلة، لها علاقة بالأخلاق الجنسية القمعية أكثر من ارتباطها بما هي الطبيعة وما يمكن أن تكون عليه. وفي مواجهة الأصوات التي تصر على ضرورة ألا تنهب التكنولوجيا الطبيعة، يجادل أدورنو بأنه ربما يمكن للتكنولوجيا أن تمكّن الطبيعة من الحصول على ما تريده على هذه الأرض المحزنة، ونحن جزء من هذه «الطبيعة» المشار إليها هنا.الطبيعة، في واقع الأمر، ليست مجرد شيء خارجي نعمل عليه، وإنما بداخلنا أيضاً، فنحن أيضاً طبيعة. من جانبه، كتب الشاعر الرومانسي الألماني يوهان فولفغانغ فون غوته: «دموعي تنساب»، «الأرض.. سأعود إليك».من ناحيته، عدّ أدورنو أحاسيسنا المليئة بالحيوية عندما واجهنا ضخامة الطبيعة الجامحة إشارة إلى الوعي بجوهرنا الطبيعي. إن الوجود الأعلى السامي - سواء واجهناه في العالم أو في الفن - يثير فينا الدموع والارتجاف ومشاعر جياشة. أما أنفسنا المغرورة فتتذكر صِلاتها مع العالم الطبيعي. في لحظات انهيارنا إلى حطام متهيج وعينين مغرورقتين بالدموع، نصبح في نفس الوقت أكثر بشرية وطبيعية.بالنسبة إلى شخص مرتبط بالموسيقى الطليعية والنظرية النقدية، كان أدورنو عاطفياً بشكل مدهش عندما يتعلق الأمر بالحيوانات - التي شعر نحوها بأُلفة قوية، ووجد معها شيئاً يستحق اسم يوتوبيا. وتخيل أدورنو وجوداً بشرياً نموذجياً يقوم على الامتناع عن فعل أي شيء سوى الراحة والتحديق في السحاب.إن الحلم بإنتاج غير محدود للبضائع ونشاط نهم باستمرار في المجتمع المثالي، يعكس حسبما يرى أدورنو، عقلية تنظر إلى الإنتاج كغاية في حد ذاته. وعليه فإن الانفصال عن شكلنا التاريخي المتكيف فقط مع الإنتاج، والعمل ضد العمل نفسه، وعدم القيام بأي شيء في مجتمع حقيقي نعتنق فيه الطبيعة وأنفسنا على أنها طبيعية، قد ينتهي بنا إلى الحرية.إن رفض فكرة الطبيعة كشيء يحمينا ويمنحنا العزاء، يكشف لنا أننا جزء لا يتجزأ من الطبيعة. من هناك، قد نبدأ في إنقاذ أنفسنا... مع كل شيء آخر. * بروفسورة الجماليات السياسية في كلية «بيركبيك» بجامعة لندن* خدمة «نيويورك تايمز»

مشاركة :