لقد جاءت الشريعة الإسلامية الغراء لتحقيق مقاصد كبرى عظيمة لحفظها وحمايتها، ومن هذه المقاصد الكبرى (حفظ المال)، وحفظ المال بأن تكون مصادره سليمة جائزة شرعاً، وحفظ المال من حيث مصارفه، وحسن استخدامه، وعدم التعدي عليه بشتى أنواع التعديات، وقد اهتمت الشريعة بالمال اهتماماً بالغاً، فكما جاء في الحديث المرفوع قال صلى الله عليه وسلم: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه". أخرجه الترمذي وغيره وصححه الالباني، وجاء أيضاً قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة" أخرجه البخاري. وقد اجتهد علماء الإسلام وفقهاءه في جمع وتحديد الأصول التي ترجع لها المعاملات المالية المحرمة في الشريعة الإسلامية. قال ابن العربي المالكي رحمه الله: "قواعد المعاملات أربع، أكل المال بالباطل، والربا، والغرر..". وقال ابن رشد المالكي رحمه الله: "أصول فساد البيوع: الربا، والغرر، والشروط المحرمة إما تؤول إلى أحدهما، أو مجموعهما"، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "أكل المال بالباطل في المعاوضة نوعان: ذكرهما الله في كتابه وهما: الربا والميسر، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم فصل ما جمعه الله في كتابه، فنهى عن بيع الغرر"، وقال ابن القيم رحمه الله: "القصد في العقود كلها إنما هو العدل، والشارع نهى عن الربا، والميسر، لما فيهما من الظلم، وكلاهما من أكل أموال الناس بالباطل، وما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المعاملات، كبيع الغرر، داخل إما في الربا، أو في الميسر"، ولاشك في خطورة المعاملات المحرمة ومكاسبها، على دين المسلم، وصلاح دنياه وآخرته، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "يا كعب بن عجرة لا يربوا لحم من سحت، الا كانت النار أولى به" أخرجه الترمذي بسند حسن، والسحت (الحرام)، وقد كثرت المعاملات والمكاسب المحرمة في زمننا هذا، وكثر روداها، وكثر الاحتيال للوصول إليها، إما بجهل، أو بعلم وعناد، ولاشك أن من يقتحم هذه المعاملات بدون سؤال أهل العلم، فهذا تفريط يأثم صاحبه ولا عذر له بهذا التقصير، لأن الله جل وعلا قال: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}، وبجب ألا تتحكم شهوة حب المال، وتدعو للولوغ في هذه المكاسب الآسنة المحرمة شرعاً، لأن عاقبتها في الدنيا على النفس والأولاد هي: عدم الصلاح، وموت القلب، وعدم استجابة الدعوة، وفي الآخرة: عذاب أليم، فوجب تنقية النفس، والمال، بالتوبة الصادقة، وتصحيح المسار قبل الندم يوم لا ينفع الندم، وقد بذل علماؤنا، وفقهاؤنا الأجلاء، جهوداً مشكورة في بيان الأحكام الشرعية، للمعاملات المالية، والتفريق بين ما هو جائز وغير جائز، ودراسة البدائل الشرعية وتأصيلها، تأصيلاً علمياً، لتحقيق المكاسب الحلال، من خلال الدراسات، والفتاوى المحررة، وقرارات المجامع الفقهية، واللجان الشرعية في كثير من البنوك والمصارف، وقد تم بحمد الله مؤخراً إصدار مؤسسة النقد العربي السعودي (البنك المركزي حالياً)، إطار الحوكمة الشرعية للبنوك، والمصارف المحلية العاملة في المملكة العربية السعودية في 8-6-1441 ، وذلك كحد أدنى لممارسات الحوكمة الشرعية، والذي يهدف لتعزيز بيئة الالتزام بأحكام ومبادئ الشريعة، ويشمل تحديد ومسؤوليات أعضاء مجلس الإدارة، والإدارة التنفيذية، واللجنة الشرعة، والرقابة الداخلية، وغيرها، وهذا الإطار دخل في حيز التنفيذ منذ 9/8/2020م، إلا فيما يتعلق بالمادة السابعة: "تشكيل اللجنة الشرعية، والمادة السادسة عشر: عمليات النوافذ الإسلامية، حيث يسري العمل بهاتين المادتين بصفة إلزامية في تاريخ 1-1-2023م، ومن أهم، وأبرز مسؤوليات اللجان الشرعية في البنوك: الإشراف على مدى توافق المعاملات المصرفية الإسلامية للمصرف، مع أحكام، ومبادئ الشريعة الإسلامية، ويجب أن تساعد تقارير الالتزام الشرعي، وملاحظات التدقيق الشرعي الداخلي للجنة في تحديد المسائل التي تتطلب اهتمامها، واقتراح تدابير تصحيحية لها عند الحاجة، وهذه خطوة جبارة ومشكورة من البنك المركزي، ومن حكومتنا الرشيدة، لتصحيح مسار كثير من المعاملات المصرفية وإلزام البنوك بتصحيحها لتتوافق مع أحكام الشريعة ومبادئها العظيمة. ** ** - كاتب العدل، والمستشار الشرعي في فقه المعاملات المالية الإسلامية
مشاركة :