الربيع العربي من وجهة نظر فلسفية..! - يوسف بن عبد العزيز أبا الخيل

  • 9/2/2015
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

لا يُخفي كثير من "النخب!" العربية، فضلاً عن الجماهير، دهشتهم من النتائج التي آلت إليها أحداث ما يطلقون عليه "الربيع العربي"، إذ كانوا يأملون أن تهب على وقع أحداثه نسائم الحرية والعدالة والمساواة والإخاء، وقبل ذلك: المدنية في السلوك والتعامل. إلا أن أحداث ذلك "الربيع" أثبتت أنه لم يكن ربيعاً، وإنما هو قيظ لاهب، يحسب الضمآن سرابه ماء حتى إذا جاءه لم يجده، وأراد الرجوع إلى ما قبله، فلم يستطع، فأمسى كالمنبت الذي لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع. إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد دشن عقداً اجتماعياً يقر أن للمسلمين دينهم ولليهود دينهم، فلا أقل من أن يعقد السنة والشيعة، وهما أكبر فصيلين إسلاميين متناحرين، عقداً يقر بأن للشيعة مذهبهم وللسنة مذهبهم، ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون لقد آل المآل بكل الشعوب التي حط فيها "الربيع" العربي رحاله، إلى أن يتمنوا أن يرجع بهم الزمن إلى ما قبل أحداثه، حيث يجدون فيه على الأقل، الأمن في أدنى درجاته، بعد أن رأوا بأم أعينهم كيف أحل بها هذا "الربيع" الذل والهوان وانعدام الأمن والقتل على الهوية المذهبية، والجوع والخوف ونقص من الأموال والأنفس والثمرات! بلدان مثل العراق وليبيا، الأول كان يحكمه طاغية مستبد، يتحرك أينما كانت وجهته، على ركام من جماجم البشر الذين أزهق أرواحهم. طاغية جعل الفرد يخاف من أمه وأبيه، وصاحبته وأخيه، وفصيلته التي تؤويه، بل وحتى من ولده الذي من صلبه، أن يشي به إلى زوار الفجر الذين يحصون على المواطن أنفاسه، فتتلقفه يد المنون، بعد أن يُصب العذاب على رأسه صباً. لكن ما أن رحل هذا الطاغية، حتى تداعت الأكلة المذهبية على قصعته، فأهلكت الحرث والنسل، وأوردت العراق وأهله مورداً من الردى والهوان والبوار، جعلهم يتمنون عهد صدام بكل تجلياته الطغيانية، إذ كانوا خلاله يأمنون، إذا لم يعارضوه سياسياً، على حياتهم على الأقل. أما الثاني، فلقد كان يُحكم من قبل رجل كان يُنظر إليه على أنه معتوه، بل مريض سوريالي، لا يوجد في التاريخ القديم والحديث من يشبهه، فلما اقتلعه "الربيع" العربي، تحولتْ ليبيا من بعده إلى خراب ينعق فيها البوم، نتيجة لاقتتال أمراء الطوائف الليبيين على كل شيء. فأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الأمن والأمان على الأقل، بوجود ذلك المعتوه، فلما جاءه النذير، فقدنا حتى الأمن على الحياة! لماذا حدث ما حدث؟ لماذا أعاد "الربيع" العربي الشعوب التي اكتوت بناره إلى الوراء عشرات السنين، بدلاً مما كانوا يأملون منه من تدشينٍ لقيم الحرية والديمقراطية والمدنية؟ يأتي الجواب على هذا السؤال من الفلسفة والتاريخ. التاريخ الغربي بالذات بصفته محل التجربة يؤكد على أن أي إصلاح سياسي لا يمكن أن يؤتي ثماره أبداً في وجود الطائفية، أو لنقل: في وجود بيئة اجتماعية تصنف الآخر تبعاً لمذهبه و/ أو لدينه. أساس الإصلاح، بل ركنه الركين، يتمثل في تكريس المواطنة من منظور مدني بحت، منظور لا يؤثر فيه المذهب أو الدين أو العرق أو القبيلة، أو الإثنية عموما على قيم المواطنة: سلباً أو إيجاباً. وبالمناسبة، نحن ننظر إلى تكريس المواطنة من منظور اجتماعي بحت، على الأقل في راهننا كعرب وكمسلمين. المجتمع، وهو الأساس في إنجاح الإصلاحات، هو نفسه من يكرس التصنيفات، وهو الذي يوالي ويعادي بناء عليها، وبالذات ما يتعلق بالتصنيف المذهبي والديني. بعض الأنظمة السياسية قد يكون لها دور من ناحية تشجيع هذه التصنيفات، انطلاقاً من أنها تخدم مشروعها الاستبدادي الشمولي، إلا أن حضور تلك التصنيفات اجتماعياً هو الفيصل في كلا الأمرين: في تكريسها وفي نفيها. من هنا يمكن القول إن أي "ثورة" أو انتفاضة، تقوم في مجتمع طائفي، أو مجتمع تغلب عليه نزعة التصنيفات الدينية والمذهبية، وهو الأمر الشائع في مجتمعاتنا العربية، لا يمكن أن تتمخض إلا عن وضع أسوأ من ذي قبله بكثير. في(ماقبل) هذه الانتفاضات، تكون الأمور محكومة عادة من قبل حزب واحد توتاليتاري، أو حاكم واحد ديكتاتور يحكم المجتمع بقبضة حديدية، بما لا يسمح لأي فوضى، أو خروج عن النظام، أو استغلال لطائفية دينية أو مذهبية. أما (ما بعد)، فسيكون عنواناً للفوضى الشاملة، عنوان القتل على الهوية المذهبية، لأن المجتمع المنغمس في دياجير الظلام القروسطي سيُحَكِّم الطائفية، حتى من خلال ديمقراطية أداتية، كما يحصل في العراق الآن، وكما حصل في مصر! في المجتمعات غير المتنورة، تلك المجتمعات التي تتحكم فيها متلازمة التصنيف الديني والمذهبي، ما أن تأتيها فرصة إقامة ديمقراطية أداتية شكلية، حتى تبادر الجماهير الطائفية باختيار مرشحيها انطلاقاً من اعتبارات طائفية بحتة. بل يمكن القول إن المنظور الذي يقود الفرد المنتخِب في تلك المجتمعات، إنما يوجهه لاختيار المرشحين الذين يراهم أكثر طائفية من غيرهم، وبالتالي أكثر كرهاً وتشدداً مع المذهب المنافس لمذهبه. أما كفاءة المرشح، من ناحية قدرته على توفير متطلبات العيش الدنيوي، فستكون في أدنى درجات سلم اهتماماته! يقول هاشم صالح في كتاب (الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ): "أول شيء فعلته الثورة الفرنسية هو أنها حررت البروتستانت،(وهم الأقلية المذهبية في فرنسا، والذين لاقوا صنوف العنت والعذاب والقهر والظلم واستباحة الأنفس والأعراض من قبل الأكثرية الكاثوليكية)، بل وحتى اليهود، واعتبرتهم مواطنين بالكامل، مثلهم مثل الكاثوليك. وكان ذلك حدثاً هائلاً يحصل لأول مرة في فرنسا الكاثوليكية. هنا تكمن القطيعة الكبرى بالقياس إلى النظام الطائفي المذهبي القروسطي القديم". لماذا حصل هذا التطور أثناء وبعد الثورة الفرنسية؟ الجواب: لأن عصر التنوير الأوروبي كان قد فكك العصبيات الطائفية والمذهبية برمتها، وأحل بدلاً منها روح المواطنة الحديثة المتكئة على أساس مدني إنساني، يُقَيِّم المواطن، بالنسبة لحقوقه وواجباته، انطلاقاً من معايير مدنية، لا علاقة لها بدينه، أو مذهبه أو عرقه. "التطور" الذي حصل بعد الانتفاضات العربية، أو ما يسمى مجازاً "الربيع العربي"، يكمن في أنه أطلق الطائفية الموغلة في ظلامية القرون الوسطى من عقالها النسبي الذي كانت تشدها بها الأنظمة الشمولية التي قامت الانتفاضات العربية ضدها. فكأن تلك الانتفاضات قامت لتقول للأنظمة العربية: إنا نثور عليكم لأنكم لم تقوموا بواجبكم الطائفي كما ينبغي. لم تضطهدوا غير المسلمين، كما لم تضطهدوا أهل المذاهب "الضالة" المنافسة لمذهبنا الذي وحده على الحق، وبالتالي فنحن سنقتلعكم لنقوم بواجبنا الطائفي الذي قصرتم فيه! باختصار شديد، لن يكتب لأي إصلاح سياسي أو اجتماعي في المجتمعات العربية الإسلامية نجاح ما لم تتمثل المنهج المدني الذي يمتح من القرآن الكريم قيماً مدنية وإنسانية كبرى، من قبيل: "لا إكراه في الدين"،"لست عليهم بمسيطر"،" إنا إلينا إيابهم. ثم إن علينا حسابهم". "يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون"، "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعلمون". كما ويمتح من المنهج النبوي، الذي لو لم يأت منه إلا عقده لأول عقد اجتماعي مدني في التاريخ الإنساني، وأعني به ما يعرف بمصادرنا ب"صحيفة المدينة"، والذي آخى فيه النبي صلى الله عليه وسلم بين ساكني(مواطني) المدينة على أساس مدني قوامه: "...وأن من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين، ولا متناصر عليهم، للمسلمين دينهم، ولليهود دينهم، وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وأن يثرب حرام جرفها لأهل هذه الصحيفة". نحن لا نطالب جماهيرنا العربية الإسلامية بتمثل القيم الغربية في الإخاء والمساواة والعدالة والمدنية، بل نطالبهم بتمثل قيم الإسلام الرباني التي تحفظ لكلٍ دينه، وتبقي على الرابطة الإنسانية الاجتماعية بمنأى عن أن تقيم أو تنظم بقيم المذهب، أو القراءة الخاصة للدين. إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد دشن عقداً اجتماعياً يقر أن للمسلمين دينهم ولليهود دينهم، فلا أقل من أن يعقد السنة والشيعة، وهما أكبر فصيلين إسلاميين متناحرين، عقداً يقر بأن للشيعة مذهبهم وللسنة مذهبهم، ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون. لمراسلة الكاتب: yabalkheil@alriyadh.net

مشاركة :