مع تداعيات الحديث خلال الفترة الراهنة حول التغيير الوزارى المرتقب، أرى أننا فى حاجة إلى فتح حوار جاد حول فكرة الاستعانة بوزراء سياسيين على حساب تكليف مَن نصفهم بـ«التكنوقراط»، أصحاب الخبرات الفنية فقط. أكثر من مرة وقفت البلاد على حواف أزمات كبرى نتيجة سقطات بعض الوزراء وكبار المسئولين لمجرد أنهم غير سياسيين، وهو ما يستغرق وقتاً وجهداً من الحكومة بكاملها لتجاوز آثار تلك الأزمات. المؤكد أن الوزير، أو أى مسئول، إذا ما افتقد الخلفية السياسية فإنه بالضرورة يفتقد البوصلة التى ترشده إلى الاتجاه السليم، وهنا نجد لزاماً الإشارة إلى ما رأيناه من وزراء امتلكوا خبرات فنية جيدة جداً فى مجالهم، لكنهم افتقدوا الحد الأدنى من الرؤية السياسية، ومعها فقدوا القدرة على إقناع الرأى العام بقراراتهم وسياساتهم. أعرف أن البعض ممن يرفضون فكرة الاستعانة بالسياسيين كوزراء يستندون إلى ما يرونه من أهمية توافر الجوانب الفنية، وأهمية التخصص أيضاً فيمن يتم تكليفهم ببعض الوزارات، خاصة تلك التى نصفها بالوزارات الخدمية، وربما يرى البعض أن غياب الجوانب الفنية بالنسبة للوزير السياسى نتيجته الحتمية هى الفشل، وهذا مردود عليه بضرورة عودة منصب الوكيل الدائم للوزارة المحمّل بخبرات التقلب فى إداراتها وقطاعاتها المختلفة لعقود، والقادر على التعامل فنياً مع ما يتخذه الوزير من قرارات ذات أبعاد وتوجهات سياسية. عودة الوزير السياسى للمشهد لا بد أن تكون موازية لوجود الوكيل الدائم للوزارة، كلاهما يكمّل دور الآخر، دون اختلاق صراعات، أو محاولة تهميشه أو تحجيمه. الوزير السياسى يعرف كيف يخاطب الرأى العام وكيف يقنعه بسياسات معينة حتى إن كانت صعبة ومؤلمة، والوزير الفنى قد لا يستطيع حتى الدفاع عن سياسات صحيحة ومنطقية، ولا يعرف أهمية التوقيت المرتبط ببعض القرارات، ولا يأبه بقيمة الصياغة الملائمة، ولا يدرك أن ما قد يقوله اليوم ويكون مقبولاً من الناس، قد لا يصبح كذلك فى يوم آخر وفى ظروف مغايرة. أرى أن غيبة الوزير السياسى أدت لتوليد مشاكل وأزمات بسبب غياب الرؤية الشاملة عن الوزير الفنى الذى قد يكون كفؤاً فى مجاله، لكنها لا تسعفه لمواجهة حاسمة لمشكلة أو أزمة بمنهج يجمع بين الضرورة العلمية والاعتبارات السياسية التى لا مفر من أخذها فى الحسبان، خاصة فى ظل ما تواجهه مصر من مؤامرات خارجية وداخلية، وما يصاحبها من تربص لإشعال الغضب الشعبى حال عدم وجود رضاء عام عن بعض القرارات. الوزير صاحب الخبرة السياسية غالباً ما يكون الأقدر على لعب دور المايسترو فى قيادة فرق العمل داخل وزارته بهيئاتها وقطاعاتها المختلفة، يمارس كل السلطات المخوّلة له من منطق المحاسبة والشفافية، كما يستهدف دائماً إحداث نقلة نوعية فى الأداء يستشعرها المواطنون وتتيح للحكومة بكاملها تحقيق أهدافها الاستراتيجية دون عراقيل. وإذا كان واقع الحال يقتضى اختيار وزراء تكنوقراط، فإن الأمر يقتضى أيضاً تعيين مستشار سياسى لكل منهم للمساعدة فى طرح الخيارات المكمّلة والمتاحة لصانع القرار فى موضوع الاستشارة، بما فى ذلك شرح أبعاد كل من تلك الخيارات الاجتماعية والاقتصادية والإدارية، على المديين القصير والبعيد، وكذلك إيصال مشاعر وردود فعل المجتمع تجاه بعض القرارات، أخذاً فى الحسبان إثارة الأسئلة والأجوبة الممكنة، وأبعاد التطبيق المختلفة، حسب الهدف الرئيسى الذى ينشده الوزير صاحب القرار فى طلب المشورة، وأن تكون تلك المشورة مناسبة مع البيئة الاجتماعية المخاطبة بالقرار. المفاضلة بين السياسيين والتكنوقراط إشكالية كبرى لا يحسمها مقال أو عدة آراء فردية متباينة، لكنها أعمق من ذلك بكثير، ما يستدعى فتحها للحوار على نطاق أوسع من ذلك بكثير. نقلاً عن "الوطن"
مشاركة :