"المحقّق الأكبر" مسرحية تسائل حرية الإنسان | أبو بكر العيادي

  • 1/25/2021
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

بعد “الشياطين” التي أعدّها للمسرح عام 2018، عاد الممثل والمخرج سيلفان كريزفو إلى الكاتب الروسي دستويفسكي ليستوحي من روايته “الإخوة كارامازف” أشهر فصل فيها، أي الفصل الخامس الذي قال عنه فرويد إنه “من أهم الإنجازات الراقية في الأدب العالمي”، فيما وصفه الفيلسوف الروسي نيكولا بردياييف بكونه “تتويجا لجدلية أفكار دستويفسكي”. والحكاية كما وردت في رواية دستويفكسي هي عن عودة يسوع إلى الأرض ليشهد التفتيشية الإسبانية، تلك الحقبة التاريخية التي لا تناسب تعاليمه. وتبدأ حين يروي إيفان كارامازف لأخيه المواجهة بين يسوع والمحقّق الأكبر الكاردينال خوان دي توركويمادا الذي حبسه وعزم على إعدامه. مسرحية تدعو إلى فضح المحقّق الأكبر حيثما كان، ما دفع كريزفو وفرقته إلى استحضار طغاة القرن الماضي من ستالين إلى ثاتشر ولما زاره في زنزانته قبل تنفيذ حكم الإعدام، فسّر له سبب عزمه: أولا، أن يسوع وأتباعه مشاغبون لم يفهموا شيئا من مأساة الوضع البشري. ثانيا، الدفاع عن الفكرة القائلة بأن البشر مستمسكون بالحرية وحبّ الإنسان لأخيه الإنسان هو موقف ساذج، لأن هذه الأفكار هي فوق طاقة السواد الأعظم من البشر، بل قد تقودهم إلى سلوكيات قريبة من الجنون. أمّا هو وأنصاره فقد فهموا جيّدا حاجات البشر وانتظاراتهم الملموسة، وسوف يهتدون إلى السبل الناجعة للوصول إلى اللغز والمعجزة والسطوة التي تقود البشرية إلى السعادة. وفي ليلة التنفيذ تلك، يشرح المحقّق الأكبر ليسوع أنه أصبح يمثل مصدر إزعاج وخطر، وأن الكنيسة الكاثوليكية الرومانية والبشر لم يعودوا في حاجة إليه. ثم يشرع في سرد براهينه، ويبيّن له أن عودته ليست مرغوبا فيها، وأنه لن يتركه يسبّب الإزعاج من جديد بخطاب يشوّش على الكنيسة والإنسانية جمعاء. وتقوم براهين المحقّق على ثلاثة أسئلة كبرى تخصّ الإنسانية كان الشيطان قد طرحها على يسوع لإغرائه. يقول الكاردينال العجوز “توجد قوى ثلاث، هي وحدها التي يمكن لها أن تهزّ ضمائر هؤلاء المتمردين الضعفاء: المعجزة، اللغز، والسطوة، وأنت صددتها جميعا، لتضرب للناس مثلا”. ولكن كريزفو يتصرّف في الحكاية ليجعلها استعارة للتمرّد على الوضع القائم ونشدان الحرية. فيحتفظ منها ببدايتها حين يلقي إيفان على أخيه الأصغر أليوشا قصيدا ألّفه عن شخصية المحقّق الأكبر الذي أوقف يسوع وحكم عليه بالموت في محرقة، لأنه رفض أن يعد الناس بالسعادة ووعدهم بالحرية، فعرّض هيمنة الكنيسة على الشعب للخطر. ويشرع إيفان في سرد عدة حوادث فظيعة قبل أن يقرأ أحد قصائده عن “المحقّق الأكبر”، ونزول يسوع في الوقت الخطأ والمكان الخطأ، أي إسبانيا في عهد الكاردينال خوان دي توركويمادا، فيقاد إلى السجن، حيث يهدّده الكاردينال العجوز بتسليمه إلى الشعب كي يلقي به في المحرقة. ذلك أن يسوع في ظنه جاء ليزعج الحكومة التي شكّلتها الكنيسة، ويمنح البشر من جديد حرية الإيمان به، بدل الإيمان بالقوى الدنيوية والمغريات المادية. والقتل هو الثيمة الأفقية الكبرى للإخوة كارامازوف، تحت زاوية “قتل الأب”، ولكن قتل الأب شبيه بقتل الرب أو قتل السلطة السياسية، كما توحي المسرحية حين تنقلب إلى المحاكاة الساخرة بظهور ستالين ودونالد ترامب ومارغريت ثاتشر كي يمعنوا في التنكيل بجسد يسوع ومواراته، في تلميح إلى العود الأبدي لممارسات المسؤولين السياسيين في كل عصر، وأثر ذلك على الحريات الفردية، في غياب تام لردود أفعال شعب خامل سادر. وتستحضر المسرحية أيضا، إضافة إلى هذا المستوى من القراءة، المسرحي الألماني هاينر مولر الذي يسرد اكتشافه دستويفسكي، ويبيّن كيف أن الرأسمالية هي باروديا عن الشيوعية، وأن كل التوتاليتاريات مدانة لأنها تقود إلى الكوارث. في المسرحية فُسَح من الهزل والسخرية، وفيها أيضا دعوة صريحة إلى التمرّد، تتجلّى في الجملة المكتوبة على الستارة والجمهور يأخذ مكانه في القاعة “تمرّد أبدي مهما كانت النتائج”، فقد خلق كريزفو توازنا دقيقا بين الهزل والاستفزاز، ولكنه كان أقرب إلى إتيان دو لابويسي في “العبودية الطوعية” وهاينر مولر في “التفكير مدان بالأساس” منه إلى دستويفسكي. المسرحية تطرح عودة يسوع إلى الأرض ليشهد التفتيشية الإسبانية، تلك الحقبة التاريخية التي لا تناسب تعاليمه ورغم أن البداية كانت مشوّقة، حيث يبدو الأخوان جالسين إلى طاولة في خان، يتبادلان الحديث وجها لوجه، عن رغبة الأول في قتل أبيه، وعن لجوء الثاني إلى دير هربا منه، ولكن المشكلة غير هذا. يقول إيفان، المثقف المعذّب لأخيه أليوشا الحدَثِ القلِق “ضعوا مراهقَين روسيين معا، وسوف يحدثانكم عن الميتافيزيقا”. ولئن كان دستويفسكي محافظا بامتياز، فإن “المحقّق الأكبر” تبدو أكثر أعماله أناركية وثورية حسب نيكولاي بردياييف، فهي تدعو إلى فضح “المحقّق الأكبر حيثما كان، ما دفع كريزفو وفرقته إلى استحضار طغاة القرن الماضي من ستالين إلى ثاتشر. هكذا بدا الحوار السياسي والفلسفي والتيولوجي الذي دار بين أليوشا التقي الورع وأخيه إيفان المثقف المادي الملحد يحوم حول سؤال حارق “هل الإنسان جدير بالحرية؟” وقد تناوله كريزفو كمادة ركحية قابلة لشتى التأويلات.

مشاركة :