مسرحية تغوص في حياة رسامة بمدينة البندقية خلال القرن السادس عشر، وتُصوّر حدثا يلتقي فيه الواقع التاريخي بالخيال، يستند إليه المؤلف في تحليل العلاقة بين الفنان والسلطة السياسية.العرب أبو بكر العيادي [نُشر في 2018/02/12، العدد: 10898، ص(16)]إسقاط الماضي على الحاضر عرف الإنكليزي هوارد باركر كفنان متعدّد المواهب، فهو شاعر ورسّام ومؤلف ومخرج ومنظّر في المجال الدرامي، كتب للأوبرا والتلفزيون والراديو والسينما، ولكنه حاز شهرته من خلال مسرحياته التي تقارب الخمسين. بدأ باركر حياته الفنية في المسرح السياسي بالقاعة الملكية بلندن، واتخذت مسرحياته منحى اجتماعيا وسياسيا، بالتركيز على ثيمات السلطة ومساويها، وأسس عام 1987 فرقته الخاصة “مدرسة المصارعة” لكي تتولىّ إنتاج مسرحياته التي تنتمي إلى “مسرح الكارثة” على حدّ تعبيره، ذلك أنه يسعى إلى إرساء تصوّر عصري للتراجيديا بالتعبير عن تعقّد البشر، ويشتغل كثيرا على ثيمات العنف والجنس والسلطة لاستكشاف الطبع الإنساني. ويعتمد مسرحه هذا على كسر القواعد المسرحية المعروفة، والتمرّد على القيم الأخلاقية، والتركيز على الجريمة والغرائز والعواطف بلغة عنيفة مستفزّة، ذات إحالات توراتية ومؤثرات شكسبيرية، ليأخذ المتفرّج إلى عالم متخيّل، حيث عناصر الزمن والفضاء غائمة، ومن أعماله “معركة إيسونزو الثانية العشرة” و”الإمكانات”، و”جوديث والجسد المنفصل” و”لوحة تنفيذ” التي بين يدينا. وتعتبر هذه المسرحية أقل مسرحيات باركر غموضا والتباسا، وإن ركّزت على الجانب السيكولوجي، وأحداثها تحوم حول محور مركزي هو العلاقة بين الفنان والسلطة، مع عدة مواضيع أخرى حافّة، كمكانة العمل الفني حين تنجزه امرأة، ودور العاطفة والجنس في إبداع لوحة فنية، والعلاقات المتنافرة بين الأمهات والبنات، وبين العشاق إذا كان الطرفان فنانين، إلى جانب النفاق الاجتماعي والخيانة. والمنطلق هنا هو فكرةُ بناءِ سردية قومية، عن معركة بحرية هزم فيها البنادقة الجيش العثماني عام 1971، وأراد حاكم البندقية تخليدها في عمل فني، والمعركة هي ليبانتي التي دمّر فيها الأسطول المسيحي المشترك الأسطول العثماني، في إطار حرب بدأت عام 1570 وانتهت عام 1573 بين الدولة العثمانية من جهة، وجمهورية البندقية من جهة أخرى مدعومة بالعُصبة المقدّسة، وهي حلف دول مسيحية تشكّل برعاية البابا، وضمّ كُلاّ من إسبانيا، ونابولي، وصقلية، وجمهورية جنوة، ودوقية سافْوَى، وفرسان مالطة ودوقية توسكانا الكبرى. والمسرحية تتوقّف عند هذا الانتصار الساحق، وتغفل عما تلاه تاريخيا، وهو أن العثمانيين أعادوا بناء أسطولهم بسرعة وأرغموا البندقية على طلب السلم، وقبول دفع جزية للباب العالي، فالموضوع إذن ليس وقائع التاريخ المدوّنة، بل نشوء فكرة اللوحة وإنجازها.هوارد باركر اهتم بـ"مسرح الكارثة" الذي يسعى إلى إرساء تصور عصري للتراجيديا الإنسانية لوحة طولها ثلاثون مترا أريد من ورائها تخليد معركة ليبانتي، واختار لها دوق البندقية فنانة تدعى غالاكتيا، وهي شخصية استوحاها باركر من فنانة حقيقية تدعى أرتيمسيا جنتيليسكي (1593-1652) عاشت في البندقية وكانت تؤمن بحقّ الفنان في ممارسة إبداعه بحرية، دون إملاءات، ولو كانت من السلطة نفسها. ولكن بدل أن ترسم ما يمجّد الانتصار، رسمت المعركة في وجهها البشع، وجه العنف الشديد الذي تبدو الأجساد من أثره أشلاء لحم ممزّقة، وعظاما محطّمة، ودماء نازفة، لا سيما أن المتحاربين تزوّدوا بوسائل دمار جديدة، هي القذائف المدفعية التي خلفت أضرارا فادحة من الجانبين، وأصرت غالاكتيا على ذلك “حتى يشعر من ينظرون إلى لوحتها بأنهم بين ضلفتي رحاها، فيرتجفون مخافة أن تنتأ من اللوحة سهام تفقأ عيونهم”، كما تقول، لأنها، بوصفها فنانة مبدعة، تعبر عمّا تحس، ولا يهمها ألاّ يجد الدوق في أثرها الفني ملامح التمجيد والاحتفاء والتخليد التي كان يتوقّعها. الطريف في هذا النص هو الطريقة التي يربط بها المؤلف الغرض، أي كيف نرسم معركة ليبانتي، بالموضوع، أي المرأة التي ترسم، ويتبدى منذ الوهلة الأولى أننا أمام امرأة عنيدة، تعرف منذ أن بلغتها الطلبيّة ماذا ستفعل، ولم تجسّد إلاّ ما كان حاضرا في مخيلتها، أي صراخ المصابين، وتدفّق الدماء، وتحوّل الأجساد إلى أشلاء تنزلق على سطوح السفن. والمؤلف الذي يصل التاريخ بالراهن، ويسقط الماضي على الحاضر من خلال المزج بين الفترة المعاصرة والقرن السادس عشر، إنما يعزو رؤية غالاكتيا الواقعية للحرب وإيثارها رسم الفظائع والألم على أمجاد النصر إلى أشياء بالغة الخصوصية في طبع تلك المرأة، كحساسيتها المرهفة، وهوسها ببشرة عشيقها الذي يسحقها بجسده، مع شيء من الجنون الذي يسكن في العادة كل فنان حق، ويتّخذ من موقفها المناقض لموقف السلطة مطيّة لنقد كل ما يحوم حول الأثر الفني، حيث لكل شيء ثمن، سواء رضي الحاكم أو غضب. ولتجنب تصويرية ثقيلة أو تجريدية جافة، اختارت المخرجة كلوديا ستافيسكي أن تجعل إنجاز اللوحة في فضاء متنام يمثّل مرسم الفنانة، حيث الأدوات المختلفة التي تذكّر بأجواء فناني النهضة، ثم ينأى عنه تدريجيا للحديث عن مصير اللوحة في المدينة بعد اكتمالها، مصير يكاد المتفرج يلمسه من غضب الدوق واتهامه الفنانة بالجنون، ثم بالسحر، ونحن نعرف ماذا كان يعد للمُتّهمات بالسحر منذ القرون الوسطى.
مشاركة :