تمتلك الدول العظمى صورة متخيلة عادة ما تكون مبالغ في جبروتها بالقوة الصلبة (عسكرية، اقتصادية) أو عظمتها بالقوة الناعمة (اجتماعية، ثقافية، فنية...)، لكنها تتكشف عندما تواجه أزمة داخلية.. وقد تعرضت صورة أمريكا للاعتلال خاصة بعد اقتحام الكونجرس ليلة التصديق على فوز جو بايدن بالرئاسة، وطريقة تعاملها مع وباء كورونا حيث بلغت الوفيات فيها من أعلى المعدلات في العالم، فضلاً عن انسحابها من منظمات دولية والتي استهل بايدن ساعات رئاسته الأولى بالعودة إليها.. بعد اقتحام الكونجرس كتب المحلل السياسي جوناثان ماركوس «فقدت الولايات المتحدة كلاً من نفوذها وقوتها الناعمة على السواء»؛ فيما يرى الكاتب سام إدواردز (الإندبندنت) أنه سيكون لذلك عواقب وخيمة على الصورة الأمريكية في العالم، وسيجعل الهدف الرئيس للرئيس بايدن، إعادة تأسيس القيادة الأمريكية العالمية، أكثر صعوبة. ولعل خطاب التنصيب لبايدن يكشف جزءاً من الأزمة، فمنذ عهد أبراهام لنكولن، تضمنت خطابات تنصيب الرئاسة الأمريكية مناشدات للوحدة، ولكن نادراً ما كانت الوحدة منذ ذلك الحين موضوعاً مركزيًا أو متكررًا كثيرًا كما كانت في خطاب جو بايدن الأربعاء، ونادراً ما شعرت الديمقراطية الأمريكية بهشاشة مثل ذلك اليوم؛ حسبما ذكرت صحيفة الفاينانشال تايمز. قد يصب ذلك في مصلحة النموذج الصيني، ليحصل على مزيد من الجاذبية. الصين محبوبة أكثر من أمريكا في سنغافورة وماليزيا ونيوزيلندا وتايلند؛ بينما أمريكا محبوبة أكثر في الفلبين واليابان وكوريا الجنوبية وفيتنام وكمبوديا.. وتقريباً متساوية في أستراليا وإندونيسيا ولاوس وميانمار، حسب استطلاع مؤسسة غالوب بواشنطن عن مدى استحسان كل من القيادة الصينية والأمريكية. هذا الاستطلاع لدول الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة أجري قبل تفشي وباء كورونا الذي يعتقد أنه أثر سلباً في سمعة الصين.. لكن أيضاً يعتقد أن هذه الشراكة ستزيد من رصيد الصين في نيل مزيد من الاحترام والتعاطف في تلك الدول رغم ما تحمله دولها من متناقضات، كما يرى البعض أنها تدل على تغير جيوسياسي مهم، وتحديداً بعلاقتها بالاتفاقيات الأمريكية «المعلّقة» في المنطقة. إذا انتقلنا من الشرق إلى الغرب وفي الوقت الذي اختتم الاتحاد الأوروبي والصين الشهر الماضي مفاوضات بشأن صفقة استثمار، رغم طلب الرئيس الأمريكي بايدن إجراء محادثات جديدة؛ فنجد في استطلاع آخر أن الصين وأمريكا لا تحظيان بشعبية في معظم دول الاتحاد الأوروبي، حيث بلغ متوسط التصويت على استحسان القيادة لكل دولة 17 في المائة و18 في المائة على التوالي. «الصين قد تقود العالم يومًا ما لكنها لن تكون محبوبة أبداً»، حسب المختص بالشؤون الآسيوية ريتشارد باري الذي يعتقد أن الصين تمتلك كل العناصر ليتجاوز اقتصادها أمريكا، ولتكون قواتها المسلحة قوة عظمى.. وتنال احترام الجميع، لكنها لن تنال حبهم.. كما وجدت دراسة استقصائية حديثة حسب الكاتب أن عدداً كبيراً من الناس في بلدان العالم الصناعية لديهم «رأي سلبي» حول الصين أكثر من أي وقت بالعقد الماضي.. ويرى الكاتب أنه رغم امتلاك الصين لأصول ثقافية عظيمة تجعلها محبوبة دولياً، لكنها متخلفة في مجالات أخرى عن منافستها الاستراتيجية، أمريكا، وعن جيرانها القريبين كاليابان وكوريا الجنوبية. يرى البعض أن أمريكا تتفوق كثيراً على الصين في القوى الناعمة، مثل: الطلاب المبتعثين إليها، أفلام هوليوود، الإعلام كالتلفزة والصحف، العلامات التجارية، الكتب والمجلات العلمية، المنتجات الصناعية والتكنولوجية، الملابس والموضة، الشعارات والقيم السياسية، وضع المعايير عبر المؤسسات الدولية، رغم ما أثرت به انسحابات الأمريكية من بعض المنظمات الدولية.. خلال أجواء انهيار الاتحاد السوفييتي دون حرب، ونهاية الحرب الباردة بانتصار أمريكي مريح وناعم، صاغ جوزف ناي من جامعة هارفرد مفهوم «القوة الناعمة» وخصص له كتاباً عام 1990؛ ثم طوَّره عام 2004؛ ذاكراً أنه عِوضاً عن استخدام قوة الإكراه العسكرية يمكن لأمريكا الاعتماد على القوة الناعمة لتعزيز موقعها القيادي بالعالم عبر ثلاثة مجالات: الأولى قيمها الثقافية، حين تكون جذابة للآخرين، سواء ثقافة عليا نخبوية (العلوم، الآداب، الجامعات والابتعاث، المفكرون والمثقفون..)، أو ثقافة شعبية (أفلام، رياضة، غناء..). والثانية قيمها السياسية عندما يُطمح إليها في الداخل والخارج؛ وأخيراً سياساتها الخارجية عندما يرى الآخرون أنها شرعية ولها سلطة معنوية. حالياً، يعد الإنترنت أعظم أدوات القوى الناعمة، حيث الصين تتوجه لمنافسة النفوذ الأمريكي، فلديها العدد الأكبر من المشاركين بالإنترنت، وأصبحت أضخم سوق إنترنت بالعالم بعدة مقاييس، باستثناء الإنفاق فهي بعد أمريكا (تقرير مجموعة بوسطن الاستشارية). وتخطط الصين لتحقيق الاكتفاء الذاتي التكنولوجي، والاستحواذ على دور أكبر في إدارة الإنترنت وتشكيل المؤسسات والمعايير والقواعد الدولية السيبرانية.. وفي اجتماع قمة الذكاء الاصطناعي قبل عامين، قال إريك شميدت، الرئيس السابق لشركة غوغل، عن الصينيين: «بحلول عام 2020 سيلحقون بنا.. بحلول عام 2025 سيكونون أفضل منا.. وبحلول عام 2030 سيسيطرون على صناعات الذكاء الاصطناعي». أما آخر تحديث أجرته مؤسسة غالوب بشأن استحسان عمل القيادة الأمريكية في جميع أنحاء العالم، فيُظهر أنه في عام 2020، في 45 دولة استحسنها 20 في المائة بينما رفضها 66 في المائة.. ومن هنا ستواجه الإدارة الجديدة تحديات كبيرة في إعادة بناء صورة الولايات المتحدة في الخارج حسب تقرير المؤسسة.
مشاركة :