الشعر دائرة ضيقة يصعب أن تؤثر في المجتمع

  • 1/28/2021
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

كان العرب في الجاهلية يحتفلون إذا ظهر فيهم شاعر، ويعلقون القصائد التي تعجبهم في الكعبة، ويقيمون للشعر أعيادا ومواسم، ويحرصون على رضا الشعراء ويجزعون من غضبهم. غير أن فترات التاريخ التي تلت الجاهلية شهدت انحسارا تدريجيا في مجد الشعر، وفي دوره السياسي والاجتماعي، وليس من العسير أن نتبين أسباب هذه الظاهرة التي أشرنا إليها في بداية الحديث، ويكفي هنا أن نتحدث عن أربعة أسباب ساهمت في عملية الانحسار. أولاً، كان الشعر في الجاهلية الفن الوحيد ثم ما لبث أن نافسته فنون أدبية أخرى كالخطابة والكتابة بأنواعها. ثم ظهرت علوم جديدة لم تكن معروفة من قبل، كالعلوم الشرعية وعلوم النحو، ثم علوم الرياضيات والطب والفلك والأحياء. ثانيا: كان أهم سبب لانتشار الشعر هو سهولة حفظه في مجتمع لا يحسن القراءة والكتابة، ولقد كان من الطبيعي أن يؤدي انتشار الكتابة إلى إمكان تداول الشعر بسهولة، مما أفقد الشعر ميزة كبرى على النثر. ثالثا: أدى تطور الحضارة وتعقد المجتمع إلى أن يفقد الشعر تأثيره السحري على العقل العربي، ولا أظن أن أحدا يشك في أن إنسان العصر العباسي الذي عرف قدرا كبيرا من الثقافة، وعاش في بيئة فكرية متطورة، ما كان يمكن أن يستجيب للشعر بنفس الاندفاع والحماس الذي عرفه إنسان العصر الجاهلي، الذي كان ينام ويصحو ويسير على إيقاع الشعر. رابعا: أدى انهماك معظم الشعراء في المديح، وتحولهم إلى أجراء يقولون ما لا يعنون، إلى فقدهم بعض احترام الناس، وبالتالي بعض قدرتهم على التأثير في الناس. وبقدوم عصور الانحطاط فقد الشعر محتواه الفني ومضمونه الاجتماعي، وتحول إلى نظم سقيم في الألغاز والأحاجي والتشطير والتاريخ لحوادث معينة. وقد شهدت بداية القرن الـ20 محاولات الشعراء العرب للنهوض بالشعر، وقد كانت جميع هذه المحاولات، سواء المحاولات التقليدية التي بدأها البارودي وسار على منوالها شوقي وحافظ، أو محاولات مدرسة الديوان التي قادها العقاد والمازني وشكري، أو محاولات مدرسة أبوللو، أو حركة التمرد على القافية الواحدة والتفعيلة المتكررة في الأربعيات، كانت تلك المحاولات جميعها تستهدف التجديد لا في الشكل والأسلوب فحسب، بل ترمي إلى إعطاء الشعر بعدا اجتماعيا سياسيا، يجعله وسيلة من وسائل تحريك الأمة وتطويرها. لقد استطاع دعاة التجديد المتعاقبون أن يحققوا كثيرا من النجاح. انتشل البارودي الشعر من ركاكته وأعاد إليه الجزالة والفصاحة، وفتح شوقي ميدان الرواية أمام الشعر واستطاع شعراء مدرسة الديوان أن يدخلوا في الشعر العربي مفاهيم جديدة، مثل وحدة القصيدة وأن يقللوا الاهتمام التقليدي بالبيت الفرد، أما شعراء أبوللو ومدرسة المهجر فقد توسعوا في تنويع القافية وفي المزاوجة بين التفعيلات، ثم جاءت حركة الشعر الحديث في منتصف الأربعينيات، فأدخلت أهم تجديد شكلي عرفه الشعر العربي في تاريخه، حين تمردت على وحدة التفعيلة وتحللت من وحدة القافية. ولقد استطاع الشعر العربي بالإضافة إلى ما حققه من تجديد في الشكل، أن يعالج كثيرا من القضايا الاجتماعية والسياسية، التي شهدتها فترة السبعين سنة الماضية. تغنى الشعراء العرب بالحرية ونددوا بالاستعمار ودعوا إلى الاستقلال، وتحرقوا إلى الوحدة وكتبوا عن مأساة فلسطين، وعبروا عن تطلع الأمة العربية إلى غد من الرفاهية والعدالة الاجتماعية. على أننا بعد أن قررنا هذه الحقيقة ينبغي أن نبادر فنقرر حقيقتين ثانيتين بها. أولاهما أن الشعر العربي الذي تعرض للمواضيع السياسية والاجتماعية، لم يرق في مستواه الفني بحيث يتناسب مع القضايا الخطيرة التي عالجها. لقد غلبت على معظم قصائد الشعر السياسي التقليدي صفات التقريرية والخطابة والتهويل، كما غلب على معظم قصائد الشعر السياسي الحديث طابع الرمزية المفرطة، وطابع الكليشيهات المتكررة والمستمدة في معظمها من الأساطير اليونانية. إن الشعراء الذين استطاعوا أن يعبروا تعبيرا فنيا جميلا عن قضايا المجتمع السياسية، أقل من القلة وأن القصائد الخالدة التي أنتجوها، تكاد تعد على أصابع اليدين، ولعل أكبر دليل على ما أقول: هو أننا إذا تساءلنا عن الأعمال الشعرية الممتازة التي تحدثت عن ثورة الجزائر، لم نجد ما يشفي الغليل. وإذا تساءلنا عن أثر مأساة فلسطين في الشعر لم نعثر إلا على شعر متوسط لا يبلغ مستوى الروعة والخلود، إلا في قصائد معدودة. إن هذه ظاهرة مؤلمة وهي ظاهرة محيرة، أترك لغيري ممن هو أقدر مني على التحليل أن يفسرها. والحقيقة الثانية هي أن الشعر العربي رغم معالجته المتكررة لقضايا السياسة والاجتماع، لم يستطع أن يكون عاملا مؤثرا في مسار المجتمع العربي المعاصر. صحيح أن بعض الأشعار الوطنية تقرأ فتثير الحماس الوقتي، وتبقى على الشفاه فترة من الزمن. ولكن لا أجد أي دليل يقنعني بأن هذه القصائد كانت رافدا أساسيا من روافد العمل السياسي العربي. وأستطيع القول إننا إذا استعرضنا المؤثرات الفعالة في حياة المجتمع العربي، خلال السبعين سنة الماضية، لم نستطع رغم ما نكنه للشعر من محبة، أن نعتبره أحد هذه المؤثرات، ولعل أحدا لا يجادل أن كتاب المقالة السياسية والصحفيين، والعاملين في أجهزة الإعلام الأخرى، لعبوا دورا يفوق بكثير دور الشعراء في رسم خارطة العقل العربي، وقبل أن يتبادر إلى ذهن أحد أنني بمواجهة هذه الحقيقة المؤلمة، أوجه نقدا من أي نوع للشعر، أسارع إلى القول بأن اللوم لا يقع على الشعراء، بقدر ما يقع على عدد كبير من الظروف التي تضافرت لتحصر الشعر في دائرة ضيقة، يصعب عليه وهو سجينها أن يمارس دورا يذكر في التأثير في المجتمع. إن مجتمعنا العربي المعاصر لا يكاد يقرأ الشعر، يندر أن نرى الشاعر الذي يعيد طبع ديوانه أو يطبع منه أكثر من بضعة آلاف نسخة، بل إننا نستطيع القول إن الشاعر الذي يستطيع استرداد نفقات الطبع يعتبر محظوظا. لو سرت في أي بلد عربي وسألت رجل الشارع عن اسم أشهر الساسة، أو نجوم السينما أو المطربين أو لاعبي كرة القدم، في بلده أو في بلد عربي آخر، لما تردد في الإجابة ولو سألته عن أشهر الشعراء لما لقيت منه سوى الوجوم المشوب باستغراب.

مشاركة :