عبدالله مناع.. ابن حارة البحر المسكون بالإعلام والثقافة

  • 1/28/2021
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

رحل عن دنيانا قبل أيام الأديب والصحافي الألمعي الدكتور عبدالله مناع –رحمه الله- عن عمر يناهز 82 عاماً بعد صراع مع المرض، مخلفاً فراغاً كبيراً في المشهد الثقافي في وطننا الحبيب. صحة الأديب الطبيب اعتلت في أيامه الأخيرة ما استدعى تدخلات جراحية لم يقو عليها جسده إذ ظل في العناية المركزة في آخر أيامه قبل أن يفارق الحياة رحمه الله بعد مسيرة حافلة بالعطاء. وكان نادي جدة الأدبي الثقافي قد اعتمد اسم الأديب الدكتور عبدالله مناع ليكون “شخصية الملتقى” لهذا العام 2021، وتكريمه في ملتقى قراءة النص الـ 17 الذي ينظمه النادي خلال الفترة المقبلة. ابن حارة البحر ولد عبد الله بن سليمان منّاع، في حارة البحر بمدينة جدة، في 15 صفر 1939م، وحصل على الابتدائية من المدرسة السعودية بحارة الشام، وعلى الكفاءة المتوسطة من المدرسة الثانوية السعودية، وعلى الثانوية العامة التوجيهية القسم العلمي من المدرسة السعودية الثانوية بالقصور السبعة في البغدادية، ثم ابتعث إلى مصر أوائل عام 1957م والتحق بكلية طب الأسنان في جامعة الاسكندرية وتخرج منها في أواخر عام 1962م، وهناك تشكلت ذائقته الأدبية بعد أن وجد آفاقاً جديدة من فكر وأدب وفنون، عاد بعدها إلى المملكة ليعين طبيباً للأسنان بالمستشفى العام في جدة، لكنه سرعان ما انضم إلى قافلة الذين خطفهم القلم والكتابة من عالم الطب مثله مثل عمالقة كبار، كإبراهيم ناجي مؤلف قصيدة الأطلال، ويوسف إدريس عملاق القصة القصيرة، وعصام خوقير الروائي السعودي الراحل، حيث تفرّغ للأدب والكتابة والإعلام وكانت البداية عام 1960 عبر مجموعة من الخواطر والقصص القصيرة بعنوان «لمسات»، بعدها كتب وعمل في عدة صحف ومنها صحيفة الرائد الأسبوعية وصحيفة المدينة وعكاظ، ثم ترأس تحرير جريدة البلاد ومجلة اقرأ. كوّن عبد الله مناع لنفسه أسلوباً خاصاً وساحراً في الكتابة ميزه بشكل أخاذ عن زملاء جيله ومرحلته، حيث عرف بمفرداته الدافئة والحالمة التي تغوص في الوصف المنشود فتحلق مع القارئ إلى مستوى آخر من الخيال. الطفولة واليتم يقول الراحل رحمه الله عن طفولته: “بين حارة البحر وحارة الشام تشكلت طفولتي، في حياة الحارة القديمة بكل تفاصيل الحياة فيها، وفي حارة الشام في بيت خالتي كانت أولى إطلالاتي على العالم من خلال «الَبَكم والأسطوانات» التي كانت تشكل لي مدرسة، فيما كان «المذياع» مدرستي الإخبارية، هذه المرحلة التي عشتها في سن ما قبل التاسعة، جعلتني عاشقاً للكلمة، رغم أني لم أكن أفهم بعض المفردات حينها.. وإن كان اليتم أصعب مراحل حياتي التي بدأت بها، رغم ما وجدته في والدتي وجدتي مما خفف وطأة اليتم في نفسي.. في حياة تتسم بجماليات البساطة التي عشتها.. لذلك كنت أساعد والدتي في «الخياطة» وأساعدها في «كي» الملابس”. عشق كبير لعروس البحر تجلى حب مدينة جدة في العديد من كتابات مناع وخواطره ومقالاته، لكن لا أدل على ذلك العشق لعروس البحر الأحمر من كتابه “تاريخ مالم يؤرخ.. جدة الإنسان والمكان”، الذي كتب في مقدمته: “من ينسى “ديكنز” وقصة مدينته اللؤلؤتين لندن وباريس، ومن ينسى “مورافيا” و”ادريانته” في حواري “روما”، ومن ينسى “شوقي” ونيله القاهري، ومن ينسى “البردوني” وبائيته في مليحته “صنعاء”، ومن ينسى “غادة السمان” وبيروتها، ومن ينسى الملاح التائه وجندوله في “البندقية”، ومن ينسى “طه حسين” ومدينة جامعته “مونبلييه”، ومن ينسى “وليم بليك” وبحيرته السويسرية “ليمان”، وصلاح جاهين وليلته الكبيرة والعالم كتيرة في ميدان السيدة، وبيرم وبساطه السحري الذي طار به إلى حلق الواد في “تونس”، والشحاته وجدته التي تاه فيها هواه، ومن ينسى “بيرون” الحزين وهو ينوح على أعتاب روما “يتيمك يا روما عاد إليك ثانية”. مشوار صحفي حافل كانت بدايته مع الصحافة مبكراً، إذ بدأ بمراسلة صحيفة الرائد الأسبوعية من مصر أثناء دراسته، وكان له باب أسبوعي يحمل اسم “من أيامي”، وقد واصل مراسلاته للرائد بعد تحويلها إلى جريدة اسبوعية بحجم التابلويد حيث نشرت له قصة مسلسلة في 9 حلقات بعنوان “على قمم الشقاء” (قبل أن تتحول إلى رواية بعد 50 عاماً)، وفي سنة 1962م عاد إلى أرض الوطن وتم تعيينه طبيباً للأسنان بالمستشفى العام في جدة وكاتباً ومحرراً في صحيفة الرائد الأسبوعية، ثم واصل مشواره الأدبي والصحافي بالكتابة في جريدة المدينة مع بقاء التزاماته في جريدة الرائد وكتاباته لبابه الأسبوعي “مضيء ومعتم” إلى جانب ردوده على بريد القراء بتوقيع “ابن الشاطئ”. وإلى جانب يومياته في جريدة المدينة وبابه الأسبوعي “شيء ما” كان يحرر صفحة يرد فيها على مشاكل القراء والقارئات بعنوان “الباب المفتوح”، وعند قيام المؤسسات الصحفية تم اختياره عضواً بمؤسسة البلاد للصحافة والنشر حيث رشح لرئاسة تحرير البلاد، ثم عين سكرتيراً للجنة الإشراف على التحرير لمدة 5 سنوات متتالية، وكان له عمود يومي على الصفحة الأولى لجريدة البلاد بعنوان “صوت البلاد” عام 1385/1386ه 1965/1966م. ثم انتقل بقلمه إلى صحيفة عكاظ حيث كتب فيها سلسلة مقالات عن الإنسان والحياة, وفي أوائل عام 1974م كلف بتأسيس وإصدار مجلة “اقرأ” بعد أن أختير رئيساً لتحريرها فشكل جهازها وصدر العدد الأول منها في 24 ذي القعدة 1394ه (نوفمبر 1974م). ترك رئاسة تحرير اقرأ عام 1397ه ثم عاد إليها في شوال عام 1399ه, وظل في منصبه حتى تركه في نهاية رمضان عام 1407ه 1987م، ثم عين عضواً منتدباً لدار البلاد للطباعة والنشر في 27 ذي القعدة عام 1407ه, فرئيساً لمجلس الإدارة وعضواً منتدباً للدار في 1/5/1990م، بعدها أختير رئيساً لتحرير مجلة الإعلام والاتصال في ربيع الثاني من عام 1419ه الموافق أغسطس من عام 1998م, حيث أصدر العدد الأول منها في 1 رجب/ 1419ه 22 أكتوبر 1998م. إبداع متعدد المجالات أصدر الأديب الكبير خلال مسيرته الثقافية مجموعة من المؤلفات المتناغمة في الأدب والفكر والثقافة، منها: رواية «على قمم الشقاء»، «العالم رحلة»، وكتاب «شيء من الفكر»، وكتاب «تاريخ ما لم يؤرخ: جدة الإنسان والمكان»، و«أنين الحيارى»، بعض الأيام.. بعض الليالي: أطراف من قصة حياتي»، وإصدار بعنوان «شموس لا تغيب نجوم لا تنطفئ»، وآخر تحت عنوان “إمبراطور النغم”، ومؤلف بعنوان «كان الليل صديقي»، وآخر بعنوان «الطرف الآخر». وتعتبر سيرته الذاتية من أجمل وأثرى وأعذب ما كتب في هذا المجال، إذ كان منذ صغره ومع مخالطته لعمالقة الأدب والفكر والثقافة في بلاده وقتها مثل حمزة شحاتة ومحمد حسن عواد وعزيز ضياء وأحمد قنديل ومحمد حسين زيدان، لا تحبطه الرهبة بل زاده هذا الإثراء ثقة وتمكناً، كما كان حديثه ممتعاً مثل كتاباته فلا يخلو السرد من نكتة أو دعابة تخرج منه الآهات الطويلة حين الاستشهاد بمقولة مشهورة أو موقف شخصي حصل معه. ضحكته لا تفارقه بالرغم من همومه، وغليونه الذي أصبح جزءاً من شخصيته ينفث فيه أفكاره، تحول مع الوقت إلى بصمة حضوره في المجالس. كوّن مع مهندس الجمال بمدينة جدة أمينها الراحل محمد سعيد فارسي علاقة وجدانية طويلة ربط بينهما حب المدينتين الساحليتين جدة والإسكندرية، بالإضافة لعشق عميق للفنون والفكر بمختلف مشاربه. اقتباسات من مؤلفاته نشر مناع «أنين الحيارى» عام 1966، وكتب في صفحاته الأولى: «ولد الانسان عارياً من كل شيء.. لا يعرف الحب ولا الألم.. ولا الطموح.. ثم تعلّم الحب والحقد.. الكراهية والصفاء... وانطلق يناضل ويكافح.. يبكي ويضحك، والأحلام تملأ رأسه وقلبه ونفسه.. وظلّ الحب عذابه اللذيذ.. جحيمه المستساغ.. جنّته المليئة بالأشواك.. محبّو الأمس من قياصرة وعباقرة.. فلاسفة وسلاطين.. مصلحين وعاريين كانوا معذّبين أحياناً.. سعداء أبداً.. يطحنهم الشك.. يسعدهم الأمل.. كانوا حيارى مثلنا اليوم.. ومحبو الغد سيكونون أشدّ حيرة.. وعذاباً.. وسعادة». وفي العام 1969 نشر «ملف أحوال»، حيث يعود مرة أخرى إلى الغوص في أعماق النفس الإنسانية، فكتب «هذا الكتاب تأملات في الحياة وفي الإنسان. في صبوات الآخرين وفي حياتي.. لست منفصلاً عنها ولا بعيداً. جاءت فصوله استجابة لتيار غامض سيطر على مشاعري وأفكاري. أفراحي وأحزاني. همومي وآمالي.. عن معنى الحياة وحقيقة الإنسان الغائبة، وصعوباته وزمنه المحدود.. وطموحاته غير المحدودة». أما حكايته مع «قمم الشقاء»، التي عاد الراحل إليها بعد 50 عاماً، فوصفها قائلاً: خلال ابتعاثي لدراسة طب الأسنان دخلت إلى بانوراما سياسية.. وأخرى ثقافية.. وخلالها عشت أول قصة عاطفية تجاه فتاة لم أكن حينها أعلم بأنها مسيحية، وهي التي كتبت من خلال وحي إعجابي بها وهي ما دفعني إلى كتابة القصة الطويلة (على قمم الشقاء)، التي وصفت بأنها رواية التي كتبتها وأنا طالب في الاسكندرية.. لذلك ففي البدء والمنتهى كنت وسأظل مولعاً عاشقاً للكلمة.. فسعادتي مع الكلمة.. ومشكلتي مع الكلمة.. وربما كان شقائي أيضاً مع الكلمة»؛ حيث عاد إليها الراحل ليجمعها، ويضع لها مقدمة تاريخية عن الرواية لا الرواية نفسها، وينشرها بنفس العنوان الذي كانت قد نشرت به، ووجده، وتجربته العاطفية، في شخوص قصته الطويلة – كما يحب أن يسميها – ويسكب فيها أعمق ما سكب وجداً على أعالي قمم الشقاء!.

مشاركة :