الراوي للتاريخ والراوي لغيره

  • 1/31/2021
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

الجميع رُواة، وإن اختلف الثوب الذي ترتديه الرواية، الإنسان راوٍ، والمؤرخ مثله، والفيلسوف والأديب كذلك، فهؤلاء جميعاً تدخل نفوسهم في صناعة الحدث، وتُشارك في بنائه؛ غير أننا ننظر إلى الأول والثاني نظرة المرتاب الشاك، ونمنح الثالث والرابع أوسمة المدح والثناء.. الراوية صبغة بشرية، وطبيعة إنسانية، تميل إليها الخليقة، وتأخذهم صوبها ظروف الحياة، يروي عامة الناس قصص أيامهم، ويسردون أحداث لياليهم، يحكونها ويُزوّقون روايتها، وتمنحها أبازيرهم هالة لم تكن لها، مضت حياتهم هكذا، لا يُدَقّقون في الألفاظ ولا يتعقبون المعاني، فكأنما أجمعوا على أنّ ما تسمعه منهم، وتنقله إليك ألفاظهم، ليس صورة مطابقة لما كان لهم، وجرى بين أيديهم، فالعبارة اللغوية لباس فضفاض، بقصد الراوي أو بغير قصده، بقصده حين يُدخل تعديلا لغويا على الحدث، وبغير قصده حين تعجز لغته عن تصوير الحدث وإبرازه، وربّما تُلام حين تأخذ أقاويلهم حرفيّا، وتنتظر أن تطابق الحروف والكلمات والنغمات وقائع الحياة، وتكون مرآة صقيلة لها، إلا إنْ كنتَ ممن يرضى أن يتعقّب الناس روايته، ويتسلطوا على لغته، ويُراغموه أن تعكس العبارة الخبر، ولا تتجاوز مقداره، فلك حينها أن تنهج معهم ما رضيت به منهم. هذه الخصلة أساس مكين، وغرس قرير، لم يستطع إنسان أن يُفلت من أثره، وينجو من جريرته، وكلّ ما نرى من البشر أخذ نصيبه منها، وابتُلي بحظه فيها، لم يُنجِهِ علمُه، ولم يصُنْه تحرّزه، ركبها العامي في نقل أخباره، واتّخذها الأديب في نسج فنونه، واستعان بها الفيلسوف في تضخيم أفكاره، فالجميع تحكي عباراتهم شيئا لم تره عيونهم، وتنقل ألفاظهم أمرا لم تبْلُه عقولهم، فالحبيب عند الأديب شمس مشرقة، وبدر متلألئ، والإنسان عند الفيلسوف سجين نفسه، وقتيل أوهامه، فكأنّ الجميع متفق، وهو الاتفاق الثاني هنا، أنّ نقل الواقع بلغة قريبة منه، ولفظٍ شبيه به؛ يُفسده ويجني عليه ويَذهب بقيمته! الجميع جعل الحوادث تدور حوله، وتُطيف به، ثم يُصرّفها بعد ذلك كيف شاء، وهم لو ابتغوا حكاية ما كان كما كان؛ لطافوا بالحوادث، وداروا حولها، وبذلوا جهودهم في استيعابها؛ لكنهم راموا الحديث عن أنفسهم وما فيها، فكان تقديمُ ما في النفس أعزّ عليهم منها، فلم يُبالوا ما داموا قد نقلوا ما في نفوسهم أن تخسر الوقائع وتُهزم الحوادث، فهم لولا أنفسهم ما قالوا ولا كتبوا. الجميع رُواة، وإن اختلف الثوب الذي ترتديه الرواية، الإنسان راوٍ، والمؤرخ مثله، والفيلسوف والأديب كذلك، فهؤلاء جميعا تدخل نفوسهم في صناعة الحدث، وتُشارك في بنائه؛ غير أننا ننظر إلى الأول والثاني نظرة المرتاب الشاك، ونمنح الثالث والرابع أوسمة المدح والثناء، يُمدح الثالث بحجة الفلسفة، ويُغض الطرف عن مبالغته، وبحجة الأدب والفن يُثنى على الرابع وتُستعذب أكاذيبه، وهم كافة يجعلون الواقع يدور حولهم، ويستدير حسب رغباتهم، تجمعهم الرواية، وتفرّقهم طرائقها، وكثيرا ما كان تشويه الواقع الإنساني بيد فيلسوف "الإنسان للإنسان ذئب"، وريشة فنان: ومَنْ لا يذُد عن حوضه بسلاحه .. يُهدّمْ ومَنْ لا يظلمِ الناسَ يُظلمِ! على حين يُشوّه الإنسان العادي سطرا والمؤرخ فصلا من فصول الرواية الإنسانية وواقع أهلها، ومَنْ تدعوه نفسه أن يُدافع عن زهير بزمانه، وما كان عليه أهله؛ فحريٌّ به أن يقبل بذلكم الدفاع عن هوبز، ويجعل قولته تلك صادرة عن زمانه، ومفصحة عمّا كان بين أهله. وما هو ببعيد لو نظرنا إلى كل شيء بالرواية وحال الإنسان معها، حاله التي تجعله يتحدث عن نفسه، ويستغلّ ما حوله في إيصال رسالتها، وإبداء ما فيها؛ أنّ نجد أكثر ما نُشاهده من كتب، ونقلّبه من مؤلفات، ثمرة لهذه الفكرة، ودليلا عليها، فيُؤلّف الإنسان في العقائد، ويكتب في الفقه، ويُدوّن في الفكر، ويُحرّر في اللغة، وما قصد إلا أن ينقل ما استقر عنده، وثبت في بيئته، وترعرت عليه نفسه، غير أنّه يلوم المؤرخَ على تدوينه وما حسبه من تضليله، ويغفل عن فعله، ويتناسى دوره، يعدّ رواية المؤرخ للأحداث تزويرا لها، وافتئاتا عليها، ولا ينظر إلى ما كتبه في العقائد، ودوّنه في الفقه، وجرى به قلمه في الفكر، بمثل تلك النظرة التي تدعوه أن يجد نفسه في تلك المؤلفات، ويعثر عليها بين طيّاتها، وهو لو أراد لوجد حاله كحاله، وعرف أنّ المؤرخ إنْ دارت حول رأسه، وما فيه، الأحداث والوقائع فقد كان مثله، تدور حوله النصوص، وتطوف به الأفكار، ينتزع منها ما يلائم توجهه، ويُصحح مذهبه، ويقف مع بني جلدته؛ لكنه أسرف في حسن الظن بنفسه، وبالغ في إساءته مع غيره، ولو أنصف - والإنصاف على الجميع عزيز ومنيع - لنظر إلى كتب جماعته، ومؤلفات أهل مذهبه، وعدّها بوجه من الوجوه من كتب التاريخ التي تحكمها التوجهات، وتقضي فيها النزعات، فهوّن من عيبه، وخفف من لومه، ووضع كل شيء في مكانه.

مشاركة :