بحسب تقديري المتواضع، فقد جسّدت لحظة سقوط بغداد في إبريل 2003، ومشهد إسقاط تمثال لصدام حسين في ساحة الفردوس بالعاصمة العراقية، البداية الحقيقية لعملية إعادة هيكلة الإقليم، وإعلان نهاية النظام الإقليمي العربي. كان جندي أمريكي قد اشتعلت حماسته يظهر في المشهد وهو يحاول جاهدًا تغطية وجه صدام بالعلم الأمريكي، فيما كان بضعة عراقيين «متحمّسين أيضًا» يُصفِّقون لمحاولات الجندي الأمريكي التي لم تنجح. المشهد الذي بثته «حيًّا» قناة الجزيرة، وكأنّها كانت تعلم مسبقًا بما سيجري هناك بساحة الفردوس، يختزل، خلفيات كل ما عرفناه لاحقًا في سنوات ما جرت تسميته بـ»الربيع العربي». لكن ما جرى منذ غزو العراق في مارس 2003، وحتى لحظة كتابة هذه السطور، هو عمليات قصف جوي، أو مدفعي، أو «سياسي» لأنظمة ودول، اعتبر من خططوا لهيكلة الإقليم، أنها قد تجاوزت عمرها الافتراضي، ولم يعدْ لديها ما يمكن أن تُقدِّمه لخدمة الرؤية الأمريكية للشرق الأوسط الجديد. جسّدت سنوات ما يُسمَّى بـ»الربيع العربي» ما يُعرف في الحروب بالتمهيد النيراني، أو الضربات الجوية التي ينبغي أن يعقبها، نزول المشاة على الأرض، لتطهير المواقع واحتلالها، وإعلان تغيير الأوضاع لصالح رؤية جديدة للإقليم، لكن المشاة لم يصلوا في أي مكان إلى مواقع انتظرتهم طويلاً، وجرت تهيئتها على مدى سنوات لاستقبالهم، والمشاة الذين أقصدهم هنا، هم «مشاة السياسة»، أو العناصر التي يمكنها ملء الفراغ، بعد أنظمة حكم سقطت، ورؤوس أطيح بها. ولكن لماذا تأخر وصول «المشاة»؟! في ظني، أنهم لم يكونوا موجودين في أي وقت، فالأنظمة التي أسقطها الغزو الأمريكي في العراق، أو أسقطتها أحداث «الربيع العربي» لاحقًا، لم تكن تسمح باستنبات بدائل سياسية، ولا كانت تسمح بظهور وجوه جديدة، ولا كانت دول الربيع العربي وقبلها العراق، تعرف السياسة أصلاً، حتى هؤلاء المشاة «العراقيين» الذين جرى إعدادهم في الولايات المتحدة أو بمعرفتها، جرى اكتشاف عجزهم لاحقًا حين تم الدفع بهم لاحتلال مواقع القرار في بلادهم التي قادوها، إلى لحظات بدا فيها أن صميم وجودها يتعرض لتهديد حقيقي ومباشر. المأزق الحقيقي الآن، فيما تحاول قيادات النظام الإقليمي العربي لملمة المشهد، ولجم الأخطار الناجمة عنه، لا تُجسِّده فحسب هوية الأطراف المتنازعة داخل أوطان تحتضر، ولا هيمنة جماعات العنف المسلّح على مسارح عمليات التغيير، بما يُهدِّد هوية الإقليم برمته، وإنما -وتلك هى المعضلة الحقيقية- يكمن المأزق في ضعف البدائل والخيارات السياسية. قل لي بربك، هل يمكن التوافق على اختيار قيادات في سوريا والعراق وليبيا، وحتى لبنان الذي أخفق مجلس نوابه 22 مرة في اختيار رئيس للبلاد منذ انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال سليمان في مايو من عام 2014؟! حالة الجفاف السياسي التي تعرفها أغلب دول المنطقة، منذ سقوط الخلافة العثمانية رسميًّا مطلع العشرينيات من القرن الماضي، وحتى الآن، لا تدع أملاً حقيقيًّا في اجتياز المحنة الراهنة، ما يقتضي عملية مراجعة عربية في العمق، لتصحيح اختلال هيكلي في بنية الدولة العربية الحديثة، لا يمكن معالجته دون توسيع قاعدة الشراكة في القرار والاختيار، عبر مؤسسات جرّبها العالم، وشهدت أجيال عربية عديدة بنجاحها، دون أن تظفر على أرضها بنموذج مماثل، يستوعب الخصوصيات الثقافية العربية، ولا يغلق الباب أمام استلهام أسباب النجاح. moneammostafa@gmail.com
مشاركة :