من حالة الاتحاد، إلى حال العرب يا قلبي لا تحزن، فليس أسوأ من حال الولايات المتحدة، سوى حال إقليم ظن بعض قادته قبل أربعين عامًا، أن 99% من أوراق الحل والعقد في الإقليم بيد واشنطن، ثم راحوا يراهنون على ذلك عامًا بعد عام، مستسلمين للمقولة باعتبارها من "الثوابت"، رغم زلازل عصفت بواقع صاغته الولايات المتحدة، ورغم حقائق طمرت تحتها ما راهن عليه هذا البعض، سواء لخطأ في الحساب، أو طلبًا لراحة بال تزعجه الحقائق المتغيرة والسياسات المتقلبة، فيؤثر عليها تأبيد "المؤقت"، وتثبيت "العارض". يعرف الرئيس الأمريكي أوباما منذ لحظة دخوله المكتب البيضاوي في البيت الأبيض لأول مرة، أنه رئيس إمبراطورية غاربة، أو بصدد الغروب، ويعرف أن مهمته ليست استعادة مجد غابر، ولكن منع انهيار هادر، ويدرك أن المطلوب هو أن تهبط الإمبراطورية "برفق" من علياء الهيمنة المطلقة على الشأن الدولي كله، إلى سفح الشراكة مع أمم ناهضة وأخرى صاعدة وثالثة واعدة، وهكذا فإن أقصى أحلامه هو أن يظل "الأول بين أنداد" لكن أداءه على مدى ست سنوات حتى الآن، ربما يضيع على واشنطن تلك الفرصة. قبل أربعة شهور تحدث الرئيس الأمريكي عن نجاح غير مسبوق للتنسيق اليمني - الأمريكي في محاربة تنظيم القاعدة، وبعد الشهور الأربعة، كانت القاعدة في اليمن تضرب في قلب باريس، وبينما كان الحكم في صنعاء يحاول صد هجمات الحوثيين الشيعة على مأرب مستفيدًا من تحصن القاعدة بها وتصديها للحوثيين، كانت الطائرات الأمريكية بدون طيار، تقصف مواقع القاعدة في مأرب مفسحة الطريق أمام أتباع الحوثي ليدخلوها بسلام!!!. الإمبراطوريات لا تحمي مصالحها بالقوة وحدها، وإنما بالمعرفة والفهم وامتلاك الرؤية، وفي المشهد الإقليمي الراهن، لا يبدو أن لدى واشنطن لا المعرفة، ولا الفهم، ولا الرؤية، فلا أحد يزعم أن لديه تفسيرًا منطقيًا للسلوك الأمريكي تجاه قضايا الإقليم، ما لم يكن هذا التفسير في سياق "مؤامرة" قيد التنفيذ، صاغتها واشنطن أو قبلت بها، ضمن خطة إمبراطورية للهبوط الآمن، تطيل زمن الهبوط الإمبراطوري، وتبقي على هيمنته على الشأن الدولي لأطول مدى زمني ممكن، وتعوق فرص اعتلاء القوة الإمبراطورية المقبلة، إلى أطول فترة وبأعلى كلفة. ضمن خطة الهبوط الإمبراطوري الآمن، هناك الانتقال بالأولويات الأمريكية، من الشرق الأوسط الذي كانت السيطرة عليه تعني السيطرة على العالم، إلى الشرق الأقصى حيث القوة الصينية البازغة، ضمن مهمة تعطيل بكين، وتعزيز القوى الإقليمية المناوئة لها، في اليابان وكوريا الجنوبية والهند. الخروج الأمريكي من الشرق الأوسط ليس مهمة سهلة، وعملية إعادة رسم خارطة الإقليم وتوزيع الأدوار فوقها، تقتضي ضمن ما تقتضي، جراحات أكثرها مؤلم، يجري أغلبها في ساحات القتال، وفق قواعد جديدة للصراع، حلت فيها ميليشيات الجماعات محل جيوش الدول المتصارعة حول المشروع الإمبراطوري، وجرت خلالها عمليات إضعاف أطراف إقليمية كبرى أو حتى طردها "كليًا" خارج مناطق التأثير في المشهد (العراق- سوريا- ليبيا، مثلًا). ضمن عملية إعادة رسم خارطة الإقليم، جرت وتجري مهمة إعادة توزيع الأدوار فيه، وللإنصاف، فإن الأدوار لا يجري تقديمها كعطايا من السيد الأمريكي المغادر إلى السيد الإقليمي المقبل، لكنها جرت وتجري وفق حسابات قوة وقدرة على التأثير، انتزعتها بعض تلك القوى انتزاعًا، سواء بالقوة المسلحة (إسرائيل) أو بخليط القوة والتآمر(إيران) أو بقفزات تنموية (تركيا)، وفي كل الأحوال فإن القوى صاحبة "المشروع" هي من تتقدم الآن فوق خارطة الإقليم، إيران بمشروعها الفارسي وقد تمددت فوق الخارطة من العراق إلى سوريا إلى جنوب لبنان ثم إلى غزة، وأخيرًا ها هي تتمدد في اليمن "الحوثي"، ثم تركيا بمشروعها العثماني، ثم إسرائيل بمشروعها الصهيوني. حالة الاتحاد كما رآها أوباما أمس الأول، لا ترى بأسًا، في تمكين طهران من دور إقليمي، لقاء تنازلات أغلبها "رمزي" في برنامجها النووي، تعفي الرئيس الأمريكي من حرج خوض حرب لإجهاضه، أو مواجهة خصومه في الداخل وحلفائه في الخارج بشأنه، أما حالة الإقليم (المنطقة العربية) والخليج بصفة خاصة في ضوء تلك القراءة "المتشائمة" لخطاب حالة الاتحاد الأمريكي، فحدّث ولا حرج. وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي اعتبروا في بيان لهم أمس الأول أن سيطرة الحوثيين على قصر الرئاسة اليمني "انقلابًا"، فيما اعتبر جون كيري وزير الخارجية الأمريكي بعدها بدقائق، أن ما قدمه الرئيس اليمني المحاصر قد "جرى تحت ضغط".. حسنًا.. ثم ماذا بعد؟! هل يكفي توصيف ما جرى في اليمن باعتباره انقلابًا أو أن ما قدمه الرئيس هادي تنازلات تحت الحصار، لمعالجة واحد من أعقد الملفات التي تنتظرها الدنيا في العام 2015؟!. بالطبع لا بيانات الشجب، ولا عبارات الاستنكار، يمكن أن تُغيِّر واقعًا جرى رسمه بسيوف الحرب، وبأقلام التآمر فوق أرض اليمن، والأمر لا يتطلب حصافة زائدة، ولا ذكاءً مفرطًا، لإدراك أن ما يجري في اليمن غايته الحقيقية النيل من سلامة واستقرار السعودية بالذات، فالخارطة الإقليمية تشير إلى وجود إيراني ثقيل في العراق "شمال المملكة" وإلى وجود إيراني يقترب بشدة من موقع القرار في اليمن "جنوب المملكة"، وإلى تهديدات إيرانية مستمرة للبحرين "شرق المملكة"، عدا عن الوجود الإيراني في سوريا، أي أن الأخطار والتهديدات التي تستهدف وحدة وسلامة المملكة العربية السعودية تحدق بها من معظم الجهات، ضمن مباراة إستراتيجية يطلق عليها الخبراء "لعبة تنفيض السجادة" مشيرين إلى الإمساك بأطراف السجادة ونفضها لزعزعة مركزها، (والسجادة هنا هي الجزيرة العربية). التهديدات الإيرانية إذن، ليست لعبة كمبيوتر "افتراضية"، ولا هي أفلام خيال علمي، والخيارات العربية في مواجهتها، تبدأ أولًا بامتلاك الرؤية ولملمة الشتات، وتركيز مناطق الفعل والحركة، بعد استيعاب القواعد الجديدة للعبة، وهي ذات القواعد التي يلعب بها سيد البيت الأبيض، والملالي في قم، والباب العالي في اسطنبول. أمريكا التي تفتش عن وكلاء لتنفيذ رؤيتها الإقليمية، قد اعترفت في خطاب حالة الاتحاد بمحدودية قدرتها، وطهران التي انفتحت شهيتها للتمدد، تستمد طاقتها من عجزنا وقصور رؤيتنا، ولا بديل في لحظة تصاغ فيها أقدارنا وأقدار الإقليم، عن الإمساك بتلابيب اللحظة، لامتلاك رؤية وصياغة مشروع يستعيد اليمن ويعطي لشعبه أملًا في الغد، فاليمن رحم العرب لا يمكن أن يصبح فارسيًا. moneammostafa@gmail.com
مشاركة :