من المهن التي انخرط فيها عدد محدود من الناس ولم تكن معروفة من ذي قبل هي مهنة إصلاح السيارات "الميكانيكا" التي بدأت منذ ورود السيارات إلى المملكة، فتعلم البعض قيادتها وتمرس على إصلاح الأعطال البسيطة، وكانت البدايات بسيطة حيث خصص البعض منهم مكاناً كورشة خاصة به من أجل هذا الغرض، ففي الرياض مثلاً كانت "الحلة" هي مقصد من يريد إصلاح سيارته إذا تعطلت، وكانت هناك ورشة مشهورة بوجود ميكانيكيين أخوين بالقرب من "دروازة السويلم" التي تطل على "الصفاة".. العديد من الأسماء اشتهرت منذ أكثر من سبعين سنة بمعرفتها بميكانيكا السيارات، منها "الطيب مكي" وهو من الحجاز كان يعمل على إصلاح سيارات الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه-، وان كان سبقه اثنان من الجنسية الهندية هما "صديق" الذي كان يعمل رئيساً للسائقين في ديوان الملك عبدالعزيز، ومهندس آخر اسمه "رفيق الرحمن"، وهو المهندس الذي عرف أنّه أول من أدخل الكهرباء إلى الرياض بعد أن طلب منه الملك عبدالعزيز، حيث جلب مولداً كهربائياً لقصر المربع في منتصف أربعينيات القرن الهجري المنصرم، ولعل في اسميهما إجابة شافية لمعرفة لماذا كان الناس منذ القدم يطلقون مسمى "صديق" و"رفيق" على كل عامل وخصوصاً من الهنود، بالذات حيث أنهما من أوائل العمال الذين عرفهم الناس عند بداية تدفق اليد العاملة إلى البلاد بعد توحيدها. ولم تكد فرحة الناس بورود السيارات إلى المملكة في الأربعينيات الهجرية تكتمل إذ ظنها الكثير منهم تعمل بلا توقف، فصحيح أنها جعلتهم يودعون مشقة السفر إن لم تكن قد جعلت من السفر متعة إلا أن الأعطال التي تعتريها قد نغصت عليهم فرحتهم بها، ففي ذلك الزمن كانت القلة القليلة من الناس تعرف إصلاح تلك الأعطال البسيطة فقط مما يعني أن السيارة التي يكون عطلها معقداً بسبب الأعطال التي طالتها خلال المشي في الطرقات الصحراوية الوعرة سيقف مالكوها مكتوفي الأيدي أمام كومة من الحديد لا يستطيعون إصلاحها مما يجعلهم في انتظار النجدة من أحد المهندسين المتخصصين في هذا المجال على قلتهم في ذلك الوقت بل إلى ندرتهم، فكم بقيت سيارات واقفة في الصحراء لعشرات السنين وهي جديدة فأصابها عطل قد يكون في ذلك الوقت بسيطاً جداً فتركها أصحابها حتى أكلها الصدأ ولعبت فيها عوامل التعرية حتى أصبحت خردة لا تساوي شيئاً وخصوصاً في الصحاري البعيدة عن المدن والتجمعات السكانية فبقيت مجرد ذكرى وأثر لبداية ورود السيارات وشاهد على تلك الفترة. تعطلنا وكثيراً ما يسمع ركاب السيارة عبارة السائق أو المعاوني "تعطلنا" وهي التي تجلب لهم الضجر فذلك يعني مكوثهم في أرض وعرة لعدة ساعات إلى أن يستطيع السائق بمهارته وخبرته إصلاح العطل، أو أن تأتي النجدة من سيارة تقابلهم في طريقهم الصحراوي الوعر خصوصاً إذا كان العطل بسبب نفاذ الوقود أو حاجة السيارة إلى كفر وغيرها من الأمور البسيطة أما إذا كان الأمر معقداً فان ذلك يعني مكوثهم لوقت أطول لجلب قطع الغيار المطلوبة من أحد البلدان الكبيرة القريبة منهم، أما إذا لم يتعرف سائق السيارة على العطل فان ذلك يعني أن يجلب أحد المهندسين من أقرب بلدة يوجد بها من يستطيع أن يقوم بمهمة الإصلاح هذه وهم في ذلك الوقت قلة. خبرة وفراسة تجسد شخصية حمود بن هلال العتيبي أنموذجاً لجيل المكافحين الذين شقوا طريقهم الكفاح في الحياة والذين استطاعوا بالخبرة أن يكونوا أحد أمهر الميكانيكيين والذين كانوا يطلقون عليهم في عصرهم المهندسين، حيث جرته الصدفة إلى إتقان العمل في إصلاح السيارات بالخبرة والدراية لا بالتدريب والدراسة فقد انخرط في العمل سائقاً لدى شركة "أرامكو" في مدينة الظهران وكانت السيارات التي يقودها سيارات نقل ثقيلة مثل "آي بي آي" و"بكتر" و"ماك" و"دمنتي" و"عنتر ناش" وغيرها، وكانت أجرة السائق في ذلك الوقت كبيرة مقارنة بغيره من أصحاب المهن فقد كان الحرفي مثلاً يتقاضى أجرة عمله في الشهر مائة وعشرين ريالاً بينما أجرة السائق الشهرية تتجاوز المتئي ريالاً، وبعد العمل بضع سنين عاد إلى وطنه "مرات" بعد أن استطاع أن يوفر قيمة سيارة اشتراها من نوع "ماك" ولشغفه بالسيارات صار قوم بفك كل جزء من السيارات ويعيده إلى ما كان عليه لمعرفة كيف يعمل والطريقة الصحيحة لإصلاحه عند العطل، وترك العمل كلية واتجه إلى رعي الأغنام التي اشتراها قريباً من البلدة. وبعد الانتشار الواسع للسيارات وقد قادته الصدفة إلى يفتتح ورشة خاصة به بناها بالقرب من بيته بعد أن حدثت له قصة طريفة حيث كان يرعى الغنم في البرية فجاءه أحد أصدقائه بسيارته ومعه شخص قد تعطلت سيارته وطلب منه المساعدة فقال السائق له أتهزأ بي لتجلب لي هذا الرجل من البرية وهو يرعى أغنامه فقال له صاحبي اصبر وسترى عجباً فركب معهما ولما وصلا الى السيارة قام على الفور بتفحصها ووجد الخراب في كهرباء السيارة في أسلاك "البواجي" المتصلة بالمكينة فقام بفكها وترتيبها حسب ما هو مكتوب في الماكينة باللغة الألمانية وما هي الا لحظات إلا والسيارة تعمل بشكل ممتاز فقام صاحبها وهو من الحجاز وقبل رأسه وقال له "أنت يديك تكسى بالحرير" وعملك في الميكانيكا سيجني لك الذهب فأنت مهندس بارع وأفضل من مهندسين "الخريق" في مكة وهو شارع في مكة المكرمة اشتهر بوجود العديد من ورش السيارات، وبعد مدة افتتح ورشته الخاصة وصار من أشهر الميكانيكيين في المنطقة. مواقف ومن المواقف التي مرت به هو ما حدث لسائق سيارة توقف في أحد المحطات لتغيير زيت سيارته وكان يحمل ركاباً بالأجرة في صندوق "اللوري" ومعهم جوالين مملوءة ب "دبس" التمر الذي يشبه العسل وكان السائق قد حمل معه جوالين الزيت في "اللوري" ووضعها بجانب تلك التي بها "الدبس" ولما توقف وفتح "كبوت" سيارته قام بإفراغ ماكينتها من الزيت وطلب من المعاوني "وهو الشخص الذي يركب بجانب السائق في غمارة السيارة ويتولى خدمته والاعتناء بالسيارة طوال الطريق" أن يحضر الزيت ويصبه في الماكينة فقام عن طريق الخطأ بصب جوالين من "دبس" التمر في الماكينة وبعد الانتهاء من ذلك قام بتشغيل السيارة ولكنه فوجئ بصوت متغير وثقل في السيارة عند السير قليلاً فتوقف على الفور وفتح غطاء ماكينة السيارة وتفقدها فعرف أنه أخطأ بصب الدبس بدل الزيت فأسقط في يده فسأل عن ورشة للسيارات فدلوه على أحد الميكانيكيين المتميزين فلما جاء إلى السيارة طلب منهم أن يسحبوها إلى ورشته التي تقع ملاصقة بمنزله وجاء بقدر كبير وملأه بالماء وأوقد عليه النار حتى الغليان ومن ثم قام بسكب الماء المغلي في ماكينة السيارة بعد أن فتح "صرة" تصريف الزيت التي بأسفلها فصار الماء يخرج ومعه قطع الدبس بلون أحمر حتى انتهى القدر ثم أعد قدراً آخر وكرر العملية حتى صار الماء يخرج زلالاً، وبعد ذلك سكب زيتاً لتنظيف الماء من الماء، ثم ربط الصرة وسكب زيتاً جديداً، وقام بتشغيل السيارة فعادت تعمل كما كانت عليه سابقاً فقدم صاحب السيارة له الشكر وأعطاه أجرة الإصلاح وعليها زيادة. الرديتر والماكينة وفي موقف طريف مماثل فقد توقف أحد سائقي السيارات عند أحد المحلات التجارية ونزل وتجاذب أطراف الحديث مع صاحبها وبعض جلسائه ولما هم بالذهاب رأى خرطوم ماء فتذكر بأن ريديتر سيارته به نقص وهو بحاجة إلى ملئه بالماء، ففتح غطاء السيارة ففتح غطاء الماكينة الذي يصب فيه الزيت وهو منهمك في الحديث مع الجالسين حول المحل التجاري وقام بفتح صنبور الماء ولم ينتبه إلاّ وقد امتلأت الماكينة، وخرج الزيت فصعق لما رأى الزيت فقد ملأ الماكينة بالماء بدل "الريديتر" فأسقط في يده وصار يلوم نفسه على هذه الغلطة الفادحة التي ستكون سبباً في خراب الماكينة و"تخبيطها" فسأل أصدقاءه الجالسين حوله ما العمل؟ ، فقال أحدهم ليس لك إلا الذهاب إلى ورشة "حمود بن هلال" وهو أشهر الميكانيكيين الذين اكتسبوا العمل بالخبرة فاستدعاه فلما حضر قال الأمر بسيط فطلب من صاحبها عدم تشغيل السيارة بل أمره بسحبها إلى ورشته، بعد سحبها قام بفتح صرة الماكينة وأخرج كل ما فيها من زيت وما خالطه من ماء ثم جاء بزيت تنظيف وسكبه بداخلها حتى تأكد من خروج كل الماء وبعد ذلك أغلق الصرة وسكب زيتاً جديداً وقام بتشغيل السيارة فعادت كما كانت عليه ولم يصبها أي عطل أو "تخبيط" ، فشكره صاحبها على حسن تصرفه الحكيم الذي ينم عن خبرة طويلة في مجال الميكانيكا، حيث حال دون خسارته لتصليح السيارة لو أنها "خبطت" جراء إضافة الماء إليها ودفع له أجراً مضاعفاً على عمله. عدد بسيطة ومن الغريب حقاً أن يتقن البعض من الناس إصلاح السيارات على الرغم من قلة العدد اليدوية التي تساعدهم في ذلك إضافة إلى قلة قطع الغيار وشحها فلو قدر لك وألقيت نظرة على الورش القديمة منذ أكثر من نصف قرن لوجدت أن العدد محصورة على مفاتيح قليلة جداً كانت تأتي مع كل سيارة جديدة مثل المفكات باختلاف أرقامها ومطرقة حديد ومجموعة أسلاك بسيطة ولكن الخبرة والعزم والإصرار على الإتقان كانت سمة تميزهم حيث يقومون ب "توليف" القطع المستعملة والمستهلكة لإرجاعها للعمل كالجديدة ونادراً ما كانوا يستعينون بقطع غيار سيارات مستعملة لقلة الحوادث في ذلك الزمن لأن الطرقات كانت وعرة والسيارات لا تمشي بسرعة إذ قد يمر عام دون أن ترى حوادث تذكر سوى حادث انقلاب واحد أو اثنين، وعلى سبيل المثال فقد كانت البواجي للسيارات غير متوافرة، مما يجعلهم يقومون بصيانة القديمة وذلك بإحراقها بالنار ومن ثم "صنفرتها" فتعود للعمل كالجديدة، كما يقومون بعمل بعض القطع من الخشب للاستعاضة عن بعض القطع الصغيرة في "الديلكو" مثلاً، وإذا انقطع سير مروحة الماكينة قاموا بربط حبل مكانه حتى يتم الحصول على سير جديد، وإذا تعرضت "دقمة" السيارة التي من خلالها تشغل السيارة بالمفتاح كانوا يوصلون سلك من البطارية إلى الكويل "الديلكو" ومن خلال ربط سلكين تشتغل السيارة بدون مفتاح، وعند تكسر "السست" يقومون بربطها بالحبال أو "الشماغ" حتى الوصول إلى الورشة لتبديلها أو إعادة فكها وإصلاحها وهكذا، وعلى العموم فقد كانت تقنية السيارات القديمة سهلة وغير معقدة فهي عبارة عن دائرة كهربائية بسيطة وماكينة مكشوفة من السهل فكها والكشف عن خرابها بيسر وسهولة، وقد اشتهر عن أحد من كان يقوم بإصلاح السيارات بالخبرة وهو محمد بن ضويحي -رحمه الله- بأنه كان يعرف خراب السيارة بمجرد أن يسمع صوت ماكينتها قبل أن يكشف عليها فيقول العطل في الجزء الفلاني فإذا قام بفحصها وفكها كان العطل هو ما قاله. أجزاء السيارة وعند الاستماع إلى قصيدة "الله على الجمس" وهي قصيدة جميلة قيلت منذ نصف قرن حملت في طياتها العديد من المفردات الخاصة بأجزاء السيارة تجد الإلمام الشديد من قبل المهندسين لجميع قطع السيارات مما يوحي بأن هناك جيلاً كان قوي العزيمة والإصرار على التعلم الذاتي دون الحاجة إلى التتلمذ على أيدي الغير ولطرافة هذه القصيدة وجودة سبكها نورد المناسبة التي قيلت فيها وهي أن الفنان المعروف طاهر الأحسائي الذي شدا بها على الأسطوانات كان يسكن في منطقة "الثقبة" لمدة سنة كاملة تقريباً يقول تعرف فيها على شخص يقال له حمد والمعروف بحمد "أبوسطوة" وهو مهندس وصاحب "كراج" والكراج اسم قديم يطلق على "ورشة" تصليح السيارات ويتابع بأنه ذات يوم ذهبت إليه أصلح "موتري" فقال لي : أنت فنان، فقلت "أي والله" فقال حمد: ما رأيك أن تأخذ مني هذه الكلمات وتغنيها. فقلت: ما هي فقال هذه الأبيات التي غنيتها فيما بعد وهي: الله على الجمس لولا وارد الستين ياليت ما بدلوا وروده وسكانه يا ليت شالو مقصاته مع الجنبين خلوه سسته على الدنقل كما اخوانه ربحان يا من شراء من اربعه وستين ما يشتكي نفضة البطناج ربانه الله واكبر على من ضبط التيمين وزن بلوفه وبَرينقه وذرعانه لولا السلنسر وسيع ودبته مترين كان انفجر من لهيب النار شكمانه بين السلندر وبين الهيتله وجهين أطرنبة الماي تقلب بين قمصانه اما الشنابر مع البستن بوزنبين على الكرنكات في بوشات مليانه اكويل والديلكو ما يحرق ابليتين اسلاك في الكوب وافهم حق ميزانه واحد وخمسه وثلاثه وسته قبل اثنين الاربعه حطها في آخر الخانه الدينمو والكتاوت شغلها تموين بتريه للسلك والليتات بطرانه السير والمروحه في وسط الكاور تلحين تشبه ربابة ابو محمود والحانه باور استيرنق في السكان له بيبين يعجبك تصفير سفتي بلف خزانه اما الغماره بلاسلكي بكشافين طبلون ورشه عليه اسمه وعنوانه ورش متخصصة وبعد تقدم صناعة السيارات وتعدد أنواعها واختلاف أشكالها ودخول التقنية المتقدمة في صناعتها باتت أكثر تعقيداً فصارت بحاجة إلى برمجة وفحص بالكمبيوتر لمعرفة خللها حتى صار أكثر المهندسين الذين تلقوا تعليماً هندسياً متخصصاً في الجامعات يقف حائراً لا يدري عن سبب الخلل إلا بواسطة فحصها عن طريق الكمبيوتر لذلك ظهرت ورش متخصصة في هذا المجال بل صار لكل جزء من أجزاء السيارة ورشة خاصة بها فظهر ورش لإصلاح "القير" وأخرى "للماكينة" وأخرى للكهرباء، وهكذا وولى زمن البساطة وورش إصلاح كل جزء من أجزاء السيارة بالخبرة.
مشاركة :