كنت جالسا وقت العمل منذ سنين بعيدة وسمعت صراخا عاليا، اتضح أن هذا الموظف يصرخ على المسؤول في قسم المالية لأن راتبه تأخر، وآسفني المشهد لأنه خيب ظني في الرجل، فقد كان دائم البسمة لطيف الكلام دمث الخلق، وفي موقف واحد نسف الصورة، لا لأن موقفا واحدا يستحق أن يمحو كل ما قبله، بل لأن الأخلاق لا تُختبر فعلا إلا في المواقف الصعبة. ما أسهل الخلق الحسن في السراء! الابتسام واللطف والدماثة لا تكلف شيئا وتأثيرها طيب لك ولغيرك، لكن المحك الذي يبين إذا كانت راسخة أو سطحية هو مواقف الغضب. في حالة صاحبنا فإن حسن خلقة سطحي، لم يتجاوز جلد وجهه المبتسم، وفي أول اختبار فشل. لهذا قالوا إن السفر يُظهر أخلاق الرجال، فيستحيل على متصنّع الأخلاق أن يتظاهر بها 24 ساعة، خاصة مع مشاق السفر في الماضي، ولا بد من ظهور أخلاقه الحقيقية عاجلا أو آجلا. مع استحالة أن تسافر مع كل شخص فأرى أن أفضل طريقة لتعرف معدن الشخص ليست في تعامله معك، فربما يرجو منك شيئا (واسطة، مال، وظيفة.. إلخ)، ولكن في تعامله مع من لا يأبه الناس بهم، مثل عامل نظافة أو جرسون أو أي شخص قليل المال ضعيف الوضع الاجتماعي من دولة فقيرة، فإذا رأيته يتعامل معهم ببرود أو سوء خلق عرفت أن هذا معدنه الحقيقي، ولو كان ألطف الناس لي واحتفاءً. عرفتُ شخصا طيبا خلوقا، ثم تفاجأت أنه لما أتى شخص لا يحكي العربية أخذ يعبث به بأن يصفه بأقذع الألفاظ النابية، رغم أنه لا خلاف بينهما، فازدريته. أحدهم سقط من أعيننا بعد أن أحببناه، لأنه في خلاف حاد أخذ يتلفظ بالفاحش والبذيء من الألفاظ، ولم ينفع عذر صديقه لما قال: (سامحوه، فقد أعماه الغضب). بعد ماذا؟ الأخلاق الحسنة سهلة في السراء، لكن انظر لمن يتمسك بها حتى في المواقف الشاقة والغاضبة، هذا الخَلوق فعلا.
مشاركة :