تمكّن العصر الحديث من أن يجعل من السرعة فضيلة أخلاقية، بل مصدر قوة اجتماعية، ونتيجة لذلك، نزّل البطءَ منزلة الرذيلة، فجعلها مرتبطة بالكسل والضّعف وعدم الفعالية. فهل البطء رذيلة بالفعل؟ ومتى أصبح التدرُّج الاجتماعي مسألة إيقاع زمني؟ متى أمكن للإيقاع الزمني أن يؤسس للتقسيمات الاجتماعية. ثم ماذا لو كان البطء صيغة أخرى لسن علائق مغايرة بالعالم؟ ماذا لو كان البطء فعالية وتمرّداً؟! ماذا لو كان ردَّ فعل المتباطئين، واحتجاجاً ضد الإيقاع الزمني الذي غرسته الحداثة في أجسادنا؟! قبل أن نحاول الإجابة عن كل هذه الأسئلة، لنتوقف قليلاً عند تطور معاني اللفظ وأصوله. اللفظ الفرنسي الذي ينقل معنى البطء هو La lenteur، وأصل الكلمة اللاتيني هو lentus. هذه الصفة كانت تدل في البداية على المرونة. مع شيشرون سيحيل اللفظ إلى معنى الخمول، ومن ثمة صار يطلق على الصلابة ومقاومة التغيَر. وفيما بعد، ستحمِّل القرون الوسطى المسيحية اللفظَ معنى الجبن والخذلان. وخلال القرنين السادس والسابع عشر سيطلق على من تعوزه السرعة، ليصير معناه مرتبطاً أساساً بالزمن، وليقابل السرعة والحيوية. أصل كلمة سرعة «vitesse»، التي غدت هي المقابل الأساس للبطء، آتٍ من الفرنسية القديمة vistece التي تدل على المهارة. لذا، فعندما نضع البطء مقابلاً للسرعة، فدلالةً على العجز وغياب المهارة ليغدوَ ما يُعيق كل أشكال التطور. وهكذا سيرتبط البطء بالعجز والفقر، كما سترتبط العجلة بالعمل والمهارة والثروة. عندما سيتخذ مفهوم العمل معنى إيجابياً ليغدو منبعاً لتحقيق الذات مادياً ومعنوياً. وهكذا، فمع حلول الأزمنة الحديثة، ستصبح السرعة مرتبطة بالقوة والفعالية والسلطة، كما سيرتبط البطء بالفتور والكسل والخنوع. بل إنه سيغدو، في بعض الأحيان، إشارة إلى بطء التفكير والبلادة والسذاجة، وهي المعاني التي يُضمرها اليوم لفظ Slowmen الذي لا يكتفي بأن يدلّ على مزاج سيكلوجي أو سلوك أخلاقي، وإنما على فئة اجتماعية تحتل «مكانة لا تليق بها». على هذا النحو، فعندما سيطلق أوغست بلانكي سنة 1837على التحولات التكنولوجية التي عرفها القرن التاسع عشر الأوروبي عبارة «الثورة الصناعية»، فإنه كان يعني أساساً تحوّل الإيقاع الزمني للمجتمع الذي أصبح يمجّد السّرعة ويربطها بالتقدّم والرّيادة. وفي سنة 1835 سيكتب قاموس الأكاديمية الفرنسية: «المتخلّف عن الركب traînard هو الجنديّ الذي يظلّ خلف الفيلق الذي يسير بصحبته، وهو اللفظ الذي سيستعمل مرادفاً للشّخص البطيء». البطء، بهذا المعنى، هو التخلف عن الركب، إنه عدم مسايرة الإيقاع الذي تتطلبه الحياة الحديثة. لذا فعندما ينصحنا ديكارت في قاعدته الأولى من قواعد المنهج بأن نتجنب التعجل précipitation، لا ينبغي أن نفهم من ذلك دعوة إلى التباطؤ. إذ لا علاقة لقاعدة البداهة بالزمن والذاكرة. وليس للتعجّل هنا أيّ معنى زماني. فالحدس لا يستغرق الزمان. تجنّب التعجل هنا هو التعقل وليس التباطؤ. لا يربط «لسان العرب» البطء بالتعقل. وهو يكتفي بأن يحدّده بنقيضه فيقول: «البطء والإبطاء، نقيض الإسراع». وعلى العكس من ذلك، عندما يحدّد لفظاً مقارباً في المعنى، أي الرويّة، يقول: «الرّويّة في الأمر: أن تنظر ولا تعجَل..وروَّى في الأمر: لغة في روّأ نظر فيه وتعقَّبه وتفكَّر، يهمز ولا يهمز. والرّويّة: التفكّر في الأمر». هنا لا يعود البطء مقابلاً للسرعة وإنما للتهوّر وسبق الحكم. وعلى رغم ذلك، فإن حساب الزمن وتدبيره سيظل هو الخاصية الأساس التي ستطبع «الثورة الصناعية»، وتميِّز القرن التاسع عشر الأوروبي إلى حدّ أن من المؤرخين من يحدّد الثورة الصناعية، لا باكتشافها للمحرك الانفجاري، وإنما باختراعها لآلة قياس الزمن Chronomètre. لقد غدا حساب الوقت حاضراً في كل الأمكنة. هذا التدبير للوقت والتمجيد للسرعة طبَعا مسلسل الإنتاج، الأمر الذي انعكس على الإنسان، ليس فحسب في علائقه الاجتماعية، وإنما في بنيته العضوية، مما جعل ف. إنجلز، رفيق ك. ماركس، يكتب: «ليست اليد عضوَ العمل فحسب، وإنما هي أيضاً منتوجه». وهكذا سيَنحت العملُ بإيقاعه الجديد على الأجساد إيقاعاً زمنياً مخالفاً سيصوره شارلي شابلين أحسن تصوير في فيلم «الأزمنة الحديثة»، حيث يتضح أن البطء هو غياب اليقظة وعدم التنبُّه والعجز عن متابعة إيقاع الآلة التي باستطاعتها أن تلتهمك إن لم تتتبّع إيقاعها، وإن لم تجعل حركات يديك جزءاً من حركة سلسلة الإنتاج. تعمل الثقافة الحديثة على تبخيس قيمة حواس القرب (الذوق، اللمس) لصالح حواس المسافة (البصر والسمع). فمن ناحية، هناك عالم الأجساد والحساسية، ومن ناحية أخرى، عالم الذكاء والتعقل. سيسعى المتباطئون بالضبط إلى ردّ الاعتبار إلى حواس القرب تلك، وسيحاولون التمرّد على متطلّبات الحياة الحديثة عن طريق أجسادهم ليجعلوها متحررة من إيقاع الآلة قدر الإمكان. وهكذا، سيستعيد لفظ البطء أحد معانيه الأصلية، كي يغدو مرونة ومقاومةً تحُول بين الجسد وبين أن يتخذ إيقاع الآلة. البطء مقاومة الجسد كي لا يغدو منتوج الشغل، تحرير الجسد من إيقاع الآلة «كي لا تصبح أعضاء أجسادنا منتوجات للعمل، وكي تبقى مجرد أدوات له». تعتبر حركة «الوجبة البطيئة» Slow food، التي انطلقت عام 1986 بمبادرة من الصحفي كارلو بيتريني، المختص في تذوّق الأطعمة، خير مثال على هذا التمرّد. فقد كتب: «لقد أصبحت السرعة سجننا. كلنا نعاني من الفيروس نفسه: إنه فيروس «الحياة السريعة، الذي يفسد عاداتنا، ويلاحقنا في منازلنا، ويرغمنا أن نتغذى على «الوجبات السريعة»، ونمجّد كل ما هو سريع».
مشاركة :