تلك التصرفات تثبت أن مثل هؤلاء المسؤولين يضيعون حقوق المواطن الذي كفلت له الدولة مراجعتهم للمطالبة بها، فسياسة الباب المغلق سابقاً الذي لا يُفتح إلا للمقربين وذوي النفوذ، تحولت إلى مقابلة مسؤول متجهم الوجه، جاف الطباع، سليط اللسان، حدّ طرد المراجعين، وكأن المنشأة الحكومية ملك خاص لا يدخله إلا من رضي عنهم صاحب السعادة المسؤول.. حفل الأسبوع الماضي بثلاث وقائع تمثلت في سوء تعامل بعض مسؤولي إدارات رسمية، لمراجعين وطلاب وأولياء أمور، الأمر الذي لا تفسير له سوى خيانة الأمانة، وعدم إيفاء الوظفية العامة حقها، وإساءة الأدب مع ذوي الحقوق والحاجات، من منطلق استبداد سلطوي، ويقين بأنهم لن ينالوا عقوبة، ولن تطالهم محاسبة، وهذا يعني غاية الاستكبار والاستهتار، فلقد شهدت الأشهر الماضية إبعاد عدد ممن تطاول على المواطنين، وأساء التصرف معهم. فما الذي جعل أبطال وقائع الأسبوع الماضي يضربون عرض الحائط بالتوجيهات التي تجبرهم على قضاء أمور المراجعين؟ وما الذي جعلهم يتمادون في عنفهم اللفظي لدرجة تجاهل من عوقب قبلهم؟ يبدو أنهم استهانوا بالعقوبة، فضلا عن أن إغراءات الكرسي تنسي المسؤول ما يجب عليه عمله، لهذا فإنه ينبغي مضاعفة العقوبات، كالفصل أو النقل لمنطقة نائية، أو الخصم من المرتب وهو من أشد العقوبات الكفيلة بردع المخالفين المتعالين والمتسلطين.. ومن تلك الوقائع، مقطع فيديو ظهر فيه وكيل أمين محافظة الطائف، وهو يطرد مواطنا من مكتبه، في مخالفة صريحة للأنظمة والتعليمات! وليت الأمر وقف عند حدّ عدم إنجاز ما جاء من أجله، بل إن المسؤول تمادى في حمقه وصلفه، فتلفظ عليه بألفاظ نابية تكشف عن سلوك شوارعي، لا سلوك مسؤول كبير، وإذا فعل المسؤول الكبير ذلك فما عسانا أن نتوقع من الموظفين الصغار؟ فحسب الفيديو رفع صوته قائلاً: "تبي تشتكي روح اشتكي، ماني شايف أحد شي"! ولست أدري ماذا يقصد بقوله "ماني شايف أحد شي"، فمن هو ذلك الأحد الذي لا يراه شيئاً؟ ثم تمادى في تصرفه غير المسؤول قائلاً: "روح توكل على الله اطلع برا"، وعندما قال له المراجع: "أنا مواطن ومن حقي أراجع معاملتي"، كان رده: "مو شغلك بلا مواطن بلا خرطي.. الباب"!! غاية الاستهتار الذي سارعت وزارة الشؤون البلدية والقروية إلى معالجته فوراً. لكن هل تلك العقوبة كافية لتمنع آخرين سواء أكانوا كباراً أم صغاراً من تكرار السلوك نفسه؟ هنا لا بدّ من أن تعمد الجهات الحكومية إلى إصدار تعميم تحذيري للجميع بعدم الإقدام على تصرف مشين ضد المراجعين، والتشهير بالمخالف لكي يتعظ الجميع، فالذي يبدو أن اللوائح والأنظمة لا يقرأها الموظفون، وليس هناك أسرع تأثيراً من التعاميم التحذيرية، حتى لا يأخذهم حب السلطة وغرور المنصب إلى نسيان واجباتهم، فالمسؤول أياً كان لا يعين لأنه الأفضل، فلاشك أن هناك كثر يفوقونه، لكنه غرور المنصب وبريق السلطة اللذان ينسيان المسؤول المتهور واجبات الوظيفة! وليست هذه المرة الأولى التي يتطاول فيها مسؤول على مواطن مراجع في الأمانة، فقد سبق أن حدث الموقف نفسه في بلدية غرب الطائف! تثبت تلك التصرفات أن مثل هؤلاء المسؤولين يضيعون حقوق المواطن الذي كفلت له الدولة مراجعتهم للمطالبة بها، فسياسة الباب المغلق سابقاً الذي لا يُفتح إلا للمقربين وذوي النفوذ، تحولت إلى مقابلة مسؤول متجهم الوجه، جاف الطباع، سليط اللسان، حدّ طرد المراجعين، وكأن المنشأة الحكومية ملك خاص لا يدخله إلا من رضي عنهم صاحب السعادة المسؤول. "ذلك التصرف من قبل المسؤول يفرض التساؤل: لماذا تتكرر مثل هذه الأفعال التي ينتهجها بعض المسؤولين دون أي رقابة تمنع استمرارها وتستأصل ذلك السوء في التعامل، حيث اعتاد أغلب المراجعين لأمانة الطائف مثل تلك التصرفات التي لا يقبلها النظام مطلقاً، ويقف ضدها ويكافحها؟" أما الواقعة الثانية فقد انتشر مقطع "فيديو" عبر مواقع التواصل الاجتماعي عن تلفظ مدير مدرسة الملك عبدالعزيز الثانوية في نجران بكلمات بذيئة وبصوت عالٍ على أحد طلاب المدرسة، كان يشكو من عدم استلام الكتب الدراسية، وحسنا فعل مدير تعليم منطقة نجران عندما أصدر قراراً بإعفاء مدير المدرسة من منصبه، وتوجيهه للعمل معلماً، لكن ما الضمان لعدم تكرار ذلك مع الطلاب الآخرين؟ وأما الواقعة الثالثة فقد حدثت في منطقة الحدود الشمالية، حيث تلفظ وكيل مدرسة عبدالرحمن بن عوف في محافظة طريف على ولي أمر طالب راجع المدرسة لأمر يخص ابنه، بكلمات نابية وعبارات غير لائقة، بقوله: "أصلك حقير، وقليل حياء، ولا تملك ذرة رجولة"! فلقد شتم ذلك الوكيل المنتفخ كالطاووس، الرجل ونسبه للحقارة، ووصفه بقلة الحياء وانعدام الرجولة، وكلها أمور تستحق أن يقاضيه في المحاكم، والأمر لا يُقبل من رجل الشارع، فما بالنا بمن يشغل منصباً تربوياً يجب أن يكون قدوة في تعامله، إنْ للطلاب، وإن للعاملين من معلمين ومستخدمين، لكن أنّى له ذلك وقد بدا من خلال الفيديو كالثور الهائج، فلم يقم وزناً لا لكرامة الرجل، ولا للمكان بصفته مرفقاً تعليمياً وتربوياً! وقد أعفي الوكيل من عمله، وهذا ليس كافياً، وكان يجب فصله ليكون عبرة لغيره، لاسيما فداحة تصرفه، ثم من يضمن أنه لن يمارس السلوك نفسه على الطلاب وغيرهم، فأولئك لا يرحمون صغيراً ولا يوقرون كبيراً! لقد ظنوا أنهم ملكوهم عندما تولوا تلك المناصب، فمتى استعبدوا الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ إن كفّ أيديهم عن العمل، يكفّ أذاهم عن الناس. كما أن الواجب يقتضي أن يُمنع أمثال أولئك من الوظائف التعليمية والخدمية التي يقابلون فيها الجمهور، وأن يُسجّل في ديوان الخدمة المدنية بألا يُمكنوا من أي وظيفة تقتضي التعامل مع الجمهور مباشرة، أو عبر قنوات التواصل الإلكتروني، فقد كان واضحاً من خلال الفيديو أن الوكيل والآخرين، بالغوا في الاستفزاز والتطاول وقبيح القول. إننا إذا سلمنا أن أولئك الأشخاص الثلاثة نتاج تعليمنا، فإننا لا نبالغ عندما نقول إن الإشكالية تكمن في غياب منظومتي القيم والأخلاق عن مناهجنا تنظيراً وتطبيقاً، فقد عدّ المهتمون بالشأن التعليمي والتربوي القيم والأخلاق، مدخلين من مداخل الإصلاح التربوي والمجتمعي، باعتبار العلاقة الوطيدة بين القيم والأخلاق والتعليم، بحيث يعتبر التعليم المجال المناسب لترسيخ القيم الأخلاقية التي يوافق عليها المجتمع في تصرفات وسلوكات الأفراد. إن الوظيفة العامة كيان نظامي تابع للدولة، توجب على شاغلها مجموعة من الضوابط والالتزامات الإدارية والأخلاقية، فهي أمانة على الموظف أن يؤدي حقها، كما أن المراجع صاحب حاجة، والوظيفة الحكومية إنما وُجدت لتلبية حاجته وخدمته، فيجب احترامه وعدم عرقلة أموره. إني أتساءل هنا: أين أولئك المسؤولون الذين حمّلتهم الدولة الأمانة من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم مَن ولي من أمر أمّتي شيئًا فشقّ عليهم فاشقق عليه، ومَن ولي من أمر أمّتي شيئًا فرفق بهم فارفق به"؟ علاوة على أن تحمل الأمانة عبء ثقيل على من أوكلت إليه، فكيف بمن لا يوليها حقها أصلاً : "إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا"! وينبغي على المسؤولين عن القطاعات الحكومية، أو وزارة الخدمة المدنية قبل أن تلحق طالبي الوظائف بها - لاسيما تلك التي لها صلة بالناس في المدارس والجامعات، وغيرهما من الوزارات والمؤسسات الخدمية - أن تعلمهم وجوب البشاشة وطَلاقة الوجه، والرفق بالجميع، كباراً وصغاراً، يقول الله تعالى: "وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"، و"وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا"، كما أمر موسى وأخاه هارون بأن يتلطفا في الحديث مع فرعون مع ما هو عليه من كفر وطغيان: "فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا". وأوصى النبي صلى الله عليه وسلم المسلم بالبشاشة في قوله: "لا تحقرنّ من المعروف شيئًا ولو أنْ تلقى أخاك بوجهٍ طلق". وهذا كله يندرج في حسن الخلق الذي وصف الله به نبيه في قوله: "وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ". كما عدّ النبي حسن الخلق من كمال الإيمان، ردًا على من سأله: "أيّ المؤمنين أكمل إيمانًا؟ قال: أحسنهم أخلاقًا". وفي الآن نفسه نؤكد أنه ليس من اللائق استفزاز المسؤول من قبل المواطنين، وتعمدهم تصوير الواقعة ونشرها في مواقع التواصل الاجتماعي، كما حدث في مواقف سابقة تبين فيها خطأ المواطن وتجاوزه الحدود.. أخيراً يجب أن يتولى أمور الناس من هو أهل لها، ذلك الذي يخاف الله ويؤدي حقوقهم، وقد جعَل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إسناد العمل إلى مَن ليس له بأهل من علامات الساعة؛ حيث قال حينما سُئِل: متى الساعة؟ "إذا وُسِّد الأمرُ إلى غير أهلِه فانتظر الساعة"، وما أكثرهم في أيامنا هذه، فلعل الساعة قد قرُب موعدها!
مشاركة :