يُعبّر داود النبى عن جمال خليقة الله بهذه الكلمات: «السماواتُ تنطقُ بمجد الله، والفضاء يُخبرُ بما صنعت يداه» (مزمور 18: 1). يُحكى عن فنانٍ شهير كان يقوم بإعداد لوحة حائط ضخمة الحجم، فقام بوضع السقّالة حتى يقف عليها ليدهن أرضية اللوحة، ثم أتى لزيارته أحد الأصدقاء، لكنه ظلّ واقفاً فى صمتٍ عند الباب، ولم يتحدث إليه، لأنه رآه مشغولاً ومنهمكاً فى فنّه، ولاحظ كيف يدهن اللوحة بدرجاتٍ مختلفة من اللون الرمادى الداكن. وعندما أراد الفنان أن يرى الأرضية التى يرسمها من زاويةٍ أفضل، قام بنقل السقّالة لزاوية أخرى، ثم بدأ فى الرجوع للخلف بظهره، وعيناه لم تفارقا اللوحة... حتى أنه اقترب من صديقه الضيف، لكنه لم يلمحه قط، فقد كان مشغولاً تماماً بالنظر إلى لوحته، وبعد لحظاتٍ من الإمعان فيها، صرخ بصوتٍ عالٍ وبتلقائية هَتَفَ: «ما أجمل هذه اللوحة! إنها لوحة رائعة... رائعة». فتعجّب الصديق مما كان يسمعه، فقطع صمته ليخبره بوجوده قائلاً: «أية لوحة رائعة تتحدث عنها، كل ما أراه هى ألوان داكنة قاتمة بلا معنى؟!». فردّ عليه الفنان مبتسماً: «معذرة يا صديقي. فعندما تنظر أنت إليها، لا ترى سوى ما هو مرسوم بالفعل، أما أنا فعندما أنظر إليها، فإننى أرى ما سوف ُيرسم عليها. ومما لا شك فيه أن هناك فرقاً شاسعاً بين النظرتين!». يوجد فى كل شيء من حولنا جمال، ولكن ليس كل الناس قادرين على الإحساس به لأنه يعود إلى نظرة كل شخصٍ منّا. للأسف نحن نعيش فى عالم ندرت فيه مقاييس الجمال الحقيقى والتمتع بمخلوقات الله من حولنا. لكن مَنْ يريد أن ينبهر ويشعر ويتمتع بجمال المخلوقات والطبيعة، يجب عليه أن يتعوّد على رؤيتها بحبٍ ونقاءٍ وشفافية، خلاف ذلك سيرى فى كل هذا الجمال أشياءً عادية لا تأثير لها عليه. إذاً، تكمن العبّرة فى نظرة العين ورؤيتها للأشياء، فالله تعالى يُشعرنا بوجوده الدائم فى مخلوقاته العجيبة وبطرقٍ متنوعة، لذلك يجب علينا أن نبصر هذه الأشياء بعيونٍ نقية صافية، قادرة على الوصول لجوهر الجمال الذى يحيط بنا. نحن نعيش فى عصر الصور السريعة والألوان المختلفة والاعتماد على الرؤية العينية السطحية فقط. كم من المشاهد والصور التى تمر أمام عيوننا بواسطة أجهزة وأدوات متنوعة نمتلكها ونتحكم فيها! لكننا للأسف فقدنا القدرة على الرؤية الفاحصة والمتأملة التى تجعلنا نندهش مما حولنا، وبذلك فقدنا الإحساس بالجمال الحقيقى للمخلوقات والأشياء التى ينبعث منها نور الله. وتقول الحكمة الهندية: «إذا كان لديك رغيفان، أعطِ واحداً للفقراء، ثم بِع الثانى لتشترى باقة من الياسمين لتُغذى نفسك». لأنه ليس بالطعام وحده يحيا ويعيش الإنسان، فكلنا بحاجةٍ إلى نورٍ وجَمَالٍ وروحانيةٍ وسلام داخلي. نحن نعيش فى عالمٍ اهتمامه الأول والأخير الجسد والاستهلاك والحياة الرغدة، حتى أصبح تقدير الإنسان بالنسبة للغالبية العظمى، أن يرتدى ثياباً فاخرة وإن كانت أخلاقه رديئة، أن يأكل أشهى الأطعمة حتى وإن كانت حياته فارغة لا معنى لها، أن يكون ظاهره أنيقاً حتى وإن كانت طِبَاعه جافة وتصرفاته متقلّبة. لذلك نحن بحاجةٍ إلى وقفة مع الذات لنتأمل ونتذوق ونشعر بالجمال الذى يُحيط بنا، سواء فى الأشياء الظاهرة أو الخفية. كما يجب أن نتعلّم درساً من هذا المثل الهندى وهو محبتنا للآخرين وتقديم المساعدة لهم، بشرط ألا يمنعنا هذا من التأمل فى مخلوقات الله العجيبة والمذهلة والتى تغذّى نفوسنا وأرواحنا. فالخبز يحيى أجسادنا؛ ولكن الياسمين يجعلنا نحيا كبشرٍ حقيقيين. نستطيع أن نتمتع بجمال الخليقة فى كل لحظة، وبدون أن نبذل مجهوداً أو نهدر وقتاً، تكفينا لحظة قصيرة ننحنى فيها نحو زهرة لنستنشق عبيرها ونتمتع بألوانها المبهرة، أو نُحدّق فى عيون طفل لأنها تعبّر عن الشفافية والبراءة والنقاء، أو نتأمل الأفق البعيد للبحر لنشعر بوجود الله فى حياتنا. فإن عظمة المخلوقات وجمالها يؤديان إلى التأمل فى خالقها البديع. لنتأمل معاً شجرة الخريف، لا أوراق فيها ولا ثمار، أمامنا المنظر يُوحى بالموت، ومع ذلك الشجرة حيّة، فيها سر الحياة، لأن البراعم الصغيرة ستنمو بعد بضعة شهور، وستنمو الثمار، وستزدهر الحياة فيها من جديد. إذاً يجب على كل واحدٍ منّا أن يقوم بهذه الجولة السياحية بين المخلوقات، حتى يستطيع أن يكتشف جمال وعظمة عمل يد الله. ونختم بكلمات الفيلسوف كانط: «شيئان يهديانى إلى الله: السماء المرصّعة بالنجوم، والشريعة الأخلاقية فى داخلى».
مشاركة :