«البارحة نشّيت يوم القمر غاب / وأنا بغيّات الهوى صرت معشوق أسري شرات الذيب لَكْوَع ولا هاب / بسيف (هندي) لي له الحدّ مفروق دقّيت وإلا الباب به وِقَفْ بوّاب / قلت افهجوا لي باخذ الغرّ بالبوق قالوا من إنته م الملا صرت عَشّاق؟ / قلت الشجاع اللي على الناس مرفوق» يبدع الشاعر القدير «علي بن ثاني الرميثي» في تشكيل البنية الجمالية لقصيدته، وخصوصاً ما يتعلق منها بالغزل، مُبدياً قدرته الاستثنائية على تضمين شعره جرْساً إيقاعياً يصعب إيراده في هذه النوعية من القصائد المتوائمة مع البحور القصيرة والأوزان الخفيفة والقوافي السهلة المتاحة، ما يعكس حسّ الجسارة لديه، ورغبته في خوض المغامرة الشعرية إلى منتهاها، مستعيناً بخزين لغوي وافر، وخيال مشهدي آسر، ليمنحنا في النهاية قصيدة غزلية غاية في الجمال وفي دقّة الصنعة وبراعة النسج، حيث يصف لنا توقه الجارف لرؤية المحبوب، رغم كل العوائق المحيطة به، سواءً ما يتعلق بتوقيت هذا الوله الفجائي «البارحة نشّيت يوم القمر غاب» أو ما يتعلّق بالظرف المكانيّ «دقّيت وإلا الباب به وقْف بوّاب»، فرغم احتشاد الموانع مقابل الوصل والظفر بالمحبوب، فإن الجرأة الداخلية لشاعرنا جعلته مندفعاً نحوه مقصده، وحاضراًً بروحه وجسده أمام بيت المحبوب، شاحذاً أسلحته المادية والمعنوية لانتزاع حقّه ولو بالقوة، حاملاً معه بتعبير مجازي «سيف هندي لي له حدّ مفروق»، وهو من السيوف الفتّاكة المصنوعة في الهند والتي تحمل رأسين مدبّبين في مقدمتها بدلاًً من السيوف التقليدية، مشبّهاً نفسه بالذئب القوي البنية الذي لا يهاب أحداً في سبيل تحقيق مطلبه، وإطفاء غليله، مجيباًً سؤال الواقفين ضده «من انته م الملا صرت عشّاق»، قائلاً لهم إنه الشجاع الذي لا تمنعه قوّته من الرفق بالناس وحمايتهم «قلت الشجاع اللي على الناس مرفوق» دلالةً على سمو أخلاقه، رغم ما يبدو عليه من هيبةٍ وشموخٍ اعتدادٍ بالنفس. ويورد الرميثي في المقاطع التالية من قصيدته المعنونة بـ «حامي الزينات» ما يشفع له هذه الاندفاعة القوية تجاه محبوبه، والتي يمكن تفسيرها بشكل مغلوط قد يقلّل رصيده من الوقار ومن القيم الاجتماعية السويّة والنابذة للتهوّر ومضايقة الآخرين وترويعهم، مبرراً تصرّفه بغلبة الوَجْد عليه، وهيمنة الشوق على مداركه، مُذكّراً المتلقي لشعره بصفات المحبوب المميزة التي أخذت بلبّه واستحوذت على ذهنه وقلبه، قائلاً: «عليّ وعلى من طول هجره ولفراق / قد سمّ حالي وآزم الجسم مسروق من به هوى م البيض ملزوم يِعْتاق / ويبيع روحه بيع يلّابة النوق ليتك نظرته يوم يمشي تدنّاق / وطْيِه بتيه ولى حكى هوب مطفوق خمسٍ على خمسٍ وخمسٍ على ساق / ومخضّب الحنّا على كفّ غرنوق» تتجلّى في هذه المقاطع الشعرية الآسرة مناخات وانعكاسات الاضطرام الذاتي، واللهيب الداخلي، الذي تذوب من شدّته الحواسّ، ويصعب بسببها التفريق بين الواقعي والتخيلي، فكلاهما - أي الواقعي والتخيلي - صارا نسيجاً واحداً، يصعب التفريق بينهما أو عزلهما في جانب مغاير لمكان الآخر، وما أجّج هذا اللهيب وزاد في استعاره هو طول الهجر والفراق الذي جعل جسد الشاعر نحيلاً ومسلوباً من هيئته المعتادة، وشبّه هذا الفراق باللص الذي سرق صحته وأوغل في نهب عافيته، مستعيداً في القصيدة صفات المحبوب التي لا يمكن مقاومتها أو غض الطرف عنها، «ليتك نظرته يوم يمشي تدنّاق» مذكّراً في حوار افتراضي مع الأشخاص المستهجنين لتصرفه، بأن المرأة التي يهواها أَسَرَتْهُ بخجلها الكتوم، لا بغنجها الفضّاح، فعندما تمشي ترخي عينيها إلى الأرض دلالة على الاستحياء والخَفَر، وإذا تكلمّت لا يعلو صوتها كي لا تلفت سمع الآخرين ولا تثير جلبة يتنبه لها الخلق، موضحاً أن أقصى ما يمكن أن تراه العين هو أصابع رجليها، وأنامل كفّيها المخضبة بحناء يشبه لون طائر الغرنوق المتدرّج من الأبيض إلى الذهبي، والمرأة الغرنوق في اللغة هي الممتلئة والجميلة والناعمة، «خمسٍ على خمسٍ وخمسٍ على ساق / ومخضّب الحنّا على كفّ غرنوق» ولد الشاعر علي بن ثاني بن عبيد الرميثي عام 1890م في الجزر الغربية التابعة لإمارة أبوظبي، إبّان حكم الشيخ زايد بن خليفة «زايد الكبير 1855م - 1909م»، وكما يذكر الباحث الدكتور راشد أحمد المزروعي في كتابه «موسوعة أعلام الشعر الشعبي»، فإن ولادة الشاعر علي الرميثي كانت بالتحديد في جزيرة «الفيييْ» وهي تصغير لكلمة «الفيّْ»، وتقع الجزيرة إلى الشمال من «البزوم» وهي مجموعة الجزر التي تشمل «الغبّة واللفّه ومروّح وملاحة ودقلة» وكلها تقع إلى الغرب من جزيرة أبوظبي الكبرى، ويضيف المزروعي أن هذه الجزر كانت في الماضي مقرّاً وسكناً للكثير من أهالي أبوظبي المعتاشين على موارد البحر، وكانت بيوتهم مكونة من سعف النخيل ونباتات القرم، وبعضها من مصنوع من الحصا وأحجار البحر أثناء إقامتهم الشتوية فيها، أما في الصيف فيغادرون إلى مناطق البرّ والواحات الزراعية مثل العين والبريمي والباطنة وغيرها. ويصف المزروعي الشاعر الرميثي بأهم الشعراء الشعبيين الكبار المنسيين في الإمارات، والذين لم يذكرهم أحد، ولم يلتفت إليهم الإعلام، مثلما فعل بغيرهم، رغم أنه عاش وترعرع خلال النهضة الحديثة للدولة، أي منذ بدايات القرن المنصرم حتى بدايات الاتحاد في السبعينيات الماضية. ويرد في سيرة الشاعر التي ضمّنها المزروعي في كتابه أن علي بن ثاني الرميثي كان قد قرض الشعر وهو في الثلاثين من عمره وقد أثّر فيه سفره الدائم في البحر، وعمله في الغوص وابتعاده لفترات طويلة عن أهله وأحبابه مما أشعل قريحته، كما أثّر فيه سماعه لكثير من شعراء زمانه، وكذلك سماعه لأشعار الماجدي ابن ظاهر، فبدأ يقرض على منوالها وعلى نفس قوافيها، فاشتهرت قصائده كثيراً، ولمّا سمع به الشيخ شخبوط بن سلطان آل نهيان حاكم أبوظبي بين سنوات «1928م - 1966م» استدعاه واستمع إلى قصائده فأعجب به وقال له: «أنت ابن ظاهر الصغير»، وذلك نسبة إلى قوة شعره وشبهه بشعر ابن ظاهر. ومن قصائد الرميثي المنظومة على منوال قصائد ابن ظاهر المعروفة، تلك التي يقول فيها: «وإن كظّ بالحمل الثقيل ركايبه / بمّا يصيبه م الوِزا يتحمّلِ عن لا تسال المرء وعن مواربه / الولد يأخذ طبع أبوه الأولّي والنذل قدّه الأمور الخايبه / لا ينسال عنها ولا هو يسالِ» وكذلك في قصيدة أخرى تنضح بالحكمة والقراءة المتعمّقة لأحوال الدنيا وشؤون الناس، يقول فيها: «ولا ايْعدْمْ الحلال إلّا الحرام / ولا تلقى بركة بأكل الحرامِ ولا ستر الحريم إلّا الفحول / مهوب الستر ملبوس الجدامِ ولا تْيمّ الصباح بمأ غدير / إلّا مبحر وتلقى به وْيامي ولا يذلّ الشجاع عن الشجاع / نهار الكون يوم البخش حامي» يطرّز الشاعر علي بن ثاني الرميثي قصائده هنا بصيغ وتلاوين تحاكي وتتقاطع مع أوزان وقوافي وأساليب الشاعر الكبير «الماجدي بن ظاهر»، ولكن هذا التقاطع الشعري لا يعني التماثل والتشابه الصرف، بل هو أقرب إلى المحايثة النابعة من الإعجاب الشديد بشعر ابن ظاهر، واغتراف ما تيسّر من بحره الممتدّ والغزير، كما أن هذا الاقتراب الواضح من شعر بن ظاهر والتزود بصوره ومعانيه وتراكيبه، يجعل من شعر الرميثي مداراً للرجع والصدى والحنين إلى شعر جزل ومتماسك بات يتسرّب من بنية الشعر النبطي منذ بدايات القرن العشرين، لأسباب اجتماعية وثقافية متعددة جعلت شعراء النبط في تلك الفترة منتجين لقصائد لصيقة ببيئاتهم وحياتهم اليومية بما تتضمنه من مفردات شعبية تعكس الوقائع المعيشة والملموسة في مجريات الوقت وتفاصيل المكان، ما جعلها قصائد بعيدة عن الإرث الشعري القديم بخصوصية سبكه واتساع رؤيته واشتماله على الكثير من المفردات الفصيحة واللغة النقيّة، وهو إرث أحكم «الماجدي بن ظاهر» قبضته عليه، واستطاع أن يبرزه بشكل واضح ومتقن، وهو ذات المنحى الذي انشغل به شاعرنا علي الرميثي وحاول فيه موازنة الأمر بين الغابر والمستجد، للحفاظ أولاً على ما تبقى من شعر السابقين، وثانياً لتذكير شعراء عصره بجواهر وكنوز الشعر القديم. ويصرّح الرميثي في إحدى قصائده بميله الواضح إلى تبنّي أسلوب ابن ظاهر، وأنّ ما يفرّق بين شعرهما هو اختلاف الزمان وتغيّر المشاهد التي تستلزم وصفاً مغايراً للظروف والوقائع التي عاشها ابن ظاهر وعاصر حيثياتها وتفاصيلها، فيقول: «يقول (بن ثاني) مثايل مِ الحشا / تشبه مقال (المايديّ) الأوّليْ يهيض ما بي م الضمير لكّنه / عينٍ يزاغيها الدفوق وتِدْيِليْ» «أبو الأبيض» رحل الشاعر علي بن ثاني الرميثي في عام 1973م، ويذكر هاشم بن سعيد بن مصباح من أهالي «المرفأ» مجريات وفاة الرميثي، حيث كان ملازماً له في أواخر حياته، كما يرد في كتاب «موسوعة أعلام الشعر الشعبي» للدكتور راشد المزروعي، مشيراً الراوي إلى أن علي بن ثاني تأثر نظره كثيراً في أواخر حياته، وكان يبحر على محمل صغير يتموّن به ويرجع إلى البرّ ما بين جزر الفيييْ والغبّة ومروّح وأبوظبي، وفي يوم من أيام صيف عام 1973م، عندما كان مبحراً على ظهر محمله نزل في برّ جزيرة «أبو الأبيض» وربطه بحبل ووضع له عموداً في البرّ، حتى يصل إليه عندما يستريح في الجزيرة، ثم ركب محمله واتجه وحيداً إلى جزيرة «الغبّة»، حيث كانت تعيش إحدى قريباته وكان جاراً لها، وهناك مرض مرضاً شديداً، وانتقل إلى رحمة الله. قصيدة الجوع من أشهر قصائد علي بن ثاني الرميثي تلك التي يصف فيها بدقة أهوال ومصائب سنوات «القحط» والجوع التي حلّت بظلالها الداكنة والمشؤومة على المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية عام 1948م، ويقول فيها: «ها السنه ما من مْبشّه / ما بقى مِ المال طِشّه عيشةٍ يا هي مْغَشّه / يوم قلّ بْنا المحاش السنة يا هي حكاية / عن ذبحةٍ في الولايه افتقر راعي الغنايه / وآزم الغالي بلاش السنه سنه عجيبه / والعجب من ها المصيبه ضاع لي لوّل نجيبه / من رخص سوق القماش بيّع التاجر حلاله / من لجل عيشة عياله يرحمه ربّ الجلاله / يعل يرخص له معاش صابت العربان غمّه / مثل طفلٍ ماتت أمه م اليتم محْدٍ يضمّه / لا لحاف ولا فراش»
مشاركة :