القاهرة من مدينة الألف مئذنة إلى ثكنات وأسوار سعد القرشالمستقبل مخيف في ظل معازل نفسية توزع 23.5 مليون طالب على جزر تعليمية بين تعليم ديني أزهري وتعليم مدني رسمي وجامعات حكومية وجامعات أجنبية وأخرى استثمارية يملكها أفراد أو مؤسسات.أسوار تعزل بين عالمينكانت القاهرة مدينة الألف مئذنة، وستصبح مدينة الثكنات والأسوار. ولا يهمّ ما وراء هذه الأسوار التي تعزل بين عالمين. هناك أسوار حول منتجعات وتجمعات سكنية لا يريد أهلها الأثرياء أن تتطفّل عليهم عيون الآخرين، كما أنشئت أسوار حول مؤسسات علمية وثقافية يفترض أن تكون مفتوحة على محيطها البشري والعمراني والجغرافي. وقبل سنوات كانت الأسوار رمزية، مثل الإشارات الضوئية المنظمة لحركة المرور في الدول الراقية، فالإشارة الحمراء لا تمنع العبور، ولكن دلالتها تُغني، وكذلك السور الحديدي الذي كان يحيط دار الأوبرا، ويتيح للجمهور خارجها رؤية التماثيل والمعارض والاحتفالات في ساحتها، وقد استبدل به جدار حديدي يجعل من المؤسسة الثقافية سجنا نخبويا.كثرت الأسوار وتناسلت بعد الانتباه إلى دورها الوقائي عقب نجاح ثورة 25 يناير 2011 في الزجّ بحسني مبارك ورموز حكمه في السجون. في النشوة لم نفطن إلى قول أحد دهاة ذلك العصر إنهم في السجن آمنون على أنفسهم أكثر من بقائهم خارج الأسوار، ونصح زملاءه بالصبر؛ فالسجن آنذاك يحميهم من غضب الجماهير الثائرة. وفي يناير 2021 حكى الملحن هاني مهنا في برنامج تلفزيوني نوادر في السجن عام 2014، مفتخرا بصحبته لوزير الداخلية السابق حبيب العادلي وعلاء وجمال ابنيْ مبارك وضباط متهمين، أحدهم عميد “ضرب مواطنا لحد الموت في قسم الشرطة بالمعادي”. ولم يشفق الموسيقي الحساس على مواطن مات من التعذيب. أهدرت الملايين في سفاهات إقامة أسوار حول مؤسسات تعليمية يفترض ألا تحتجب عن محيطها العمومي، مثل جامعة القاهرة التي كان يفصلها عن الشارع سور حديدي تمحوه الأعين من الطرفينالملحن هاني مهنا، الذي لم تطرف عينه حزنا على إنسان قتله ضابط، روى أن أربعة عشر سجينا كانوا يقيمون في مبنيين يتسعان لثلاثة آلاف إنسان. ولم ينس ذكر مباهج السجن، ومنها صالة للألعاب الرياضية للعناية بالعضلات ولعب التنس والبلياردو، كما تلقى الملحن تلفزيونا من علاء مبارك، وثلاجة من أخيه جمال، كل هذا الكرم من فوائض ما كان يحوزه ابنا الرئيس المخلوع. وفي مقابل هذا العزّ، تُخفي أسوار المعتقلات حاليا أبرياء منهم صحافيون وأستاذة جامعات يتجدد حبسهم الاحتياطي بالمخالفة للدستور، ولا توجّه إليهم النيابة اتهاما، ولا تحيلهم إلى المحاكمة؛ لكي ينظر القضاء في ما يمكن أن يكونوا قد ارتكبوه من مخالفات.أمام أسوار سجن طُرَة جنوبيّ القاهرة، ظلت أستاذة الرياضيات بجامعة القاهرة ليلى سويف تتردّد يوميا، في مايو ويونيو 2020، في انتظار خطاب من ابنها “علاء” المعتقل؛ لتطمئن أنه بخير. ثم ذهبت مع ابنتها “سناء سيف” لتقديم شكوى تثبت حقها في الاطمئنان على ابنها، فبدأ فصل آخر من تراجيديا بطلها سور آخر، شماليّ القاهرة حيث سجن القناطر للنساء. ذكرت الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان يوم 10 فبراير 2021، أن “سناء سيف اُختطفت يوم 23 يونيو 2020 من أمام مكتب النائب العام، أثناء توجهها مع فريق دفاعها لمقابلة النائب العام وتقديم بلاغ بواقعة التعدي عليها وعلى شقيقتها ووالدتها أمام بوابة سجون طرة”.ذكر الملحن هاني واقعة قتل نفس بشرية بحياد أدنى من الحزن على موت كلب صدمته سيارة. تصريحه من ثمار تنشئة معازل تعمي المقيم فيها عن الرؤية، وقد ينظر بعين استشراقية ولكنه لا يرى، وإذا رأى فلن يحنو على من يراهم إلا بشيء من التعاطف والشفقة، لا الحب الذي تلزمه تربية وتفاعل ونسف للأسوار. لم يظهر حبيب العادلي الشهير بالجلاد في المحكمة إلا وفي يده المصحف، وكذلك جمال وعلاء ابنا مبارك. وذكر هاني مهنا أن المقاول هشام طلعت مصطفى المحكوم بالسجن خمسة عشر عاما؛ لإدانته بقتل المطربة اللبنانية سوزان تميم في دبي في يوليو 2008، بنى في السجن مسجدا يشبه الصرح.لم يذكر الملحن هاني أن عبدالفتاح السيسي أصدر في يونيو 2017 عفوا رئاسيا عن هشام طلعت مصطفى. ولكن الموسيقي المتديّن أوضح أنه كان لا ينزل من بيته إلا متوضئا، وبعد ستة أشهر في السجن اعتاد أن يصلي “الخمس فرائض إلى الآن، قرأت القرآن مداومة، قرّبت من ربنا”. على أساتذة علم النفس تفسير فصام عمومي لا يستنكر القتل، ولا يتعاطف مع “زميلة”، مطربة شابة، قتلها هوس بامتلاك الأموال والجمال، ولولا وقوع الجريمة في دبي لطمست معالمها، وجرى الاحتيال بأدلة واعترافات في اتجاه آخر أو آخرين. في هذا الفصام، لا يهم قتل مواطن وإهدار أعمار أبرياء من معتقلي الرأي، فالأهم هو الصلاة. كثرت الأسوار وتناسلت بعد الانتباه إلى دورها الوقائي عقب نجاح ثورة 25 يناير 2011 في الزجّ بحسني مبارك ورموز حكمه في السجونالمستقبل مخيف في ظل معازل نفسية توزّع 23.5 مليون طالب على جزر تعليمية، بين تعليم ديني أزهري وتعليم مدني حكومي رسمي: مدارس للتعليم العام (عربي)، ومدارس تجريبية (لغات)، ومدارس المعاهد القومية (لغات)، فضلا عن مدارس أجنبية ودولية ومدارس استثمارية (عربي، ولغات)، وجامعات حكومية، وجامعات أجنبية، وأخرى استثمارية يملكها أفراد أو مؤسسات. وأهدرت الملايين في سفاهات إقامة أسوار حول مؤسسات تعليمية يفترض ألا تحتجب عن محيطها العمومي، مثل جامعة القاهرة التي كان يفصلها عن الشارع سور حديدي تمحوه الأعين من الطرفين، وتنفسنا الحرية بفضل ثورة 25 يناير، وإرساء فضيلة انتخاب رؤساء الأقسام والعمداء، وبسرعة أعادت قبضة الأمن لعنة التعيين والبوابات المقبضة.في أكتوبر 1957 فتحت جامعة أسيوط أبوابها للدراسة، وهي أول جامعة في صعيد مصر. وكان الدكتور سليمان حزيّن قد تولى تأسيسها عام 1955، وأصبح أول رئيس لها حتى عام 1965، حين انتقل منها إلى تولي وزارة الثقافة. ومن الطرائف التي تروى أنه كان يتعمّد أن تظل الجامعة بلا أسوار، ولم يسلم طموح تطبيع التعليم من شكوى الأساتذة، متذمّرين من مرور العربجية في “الحرم الجامعي”؛ اختصارا للطريق، وهذا الاقتحام يؤذي كبرياءهم الأكاديمية. استمع الرجل إلى الشكوى، وتمسك ببقاء الجامعة متصلة بمحيطها البشري والجغرافي، فتتحقق الألفة، وردّ عليهم قائلا “ليس مهمّا أن تدخل الحمير الجامعة، والأهم هو ألا تخرج منها بشهادة جامعية”.روائي مصري
مشاركة :