حتى لا يتحول الناس الى قطيع!

  • 2/17/2021
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

منذ مطلع الحضارة الحديثة يتوق الإنسان الى كل من الحرية والأمن طريقاً لضمان عيش نافع وكرامة إنسانية، ووجدت الحضارة أن اقرب طريق الى ذلك الأمن والحرية ونتائجهما الطيبة هو نظام اجتماعي اقتصادي مرن يجدد نفسه، تعارف على تسميته بالديموقراطية الليبرالية، وقد تعددت تجاربها من بلد الى آخر، إلا أنها تمثلت حتى لأوروبا الحديثة في تجربة ناجحة في الولايات المتحدة. كتاب الكسي دوكفيل "الديموقراطية في أميركا" الذي نشر في منتصف القرن التاسع عشر أصبح لزاماً على كل من يقرأ في نشوء وتطور المؤسسات الديموقراطية وحكم الناس لبعضهم من خلال قواعد متعارف عليها، ولم يفت الكاتب في وقت مبكر أن يشير الى أن تلك الديموقراطية يمكن أن تنقلب على نفسها وتأخذ طريقاً للفردانية، إلا انه رأى أن الدستور الأميركي وهو نتاج لتجربة صعبة وقاسية من أشكال الحكم الفردي في أوروبا القرنين الثامن والتاسع عشر قد تحوّط لمزالق نموذج ذلك الحكم، ولكن هل فعل؟. ما جرى أمامنا من محاكمة في مجلس الشيوخ الأميركي وللمرة الثانية للرئيس السابق دونالد ترامب يثير لا القلق فقط ولكن الهلع أيضاً في نفوس كثيرين. فذلك التوقع للمنافع الإنسانية للديموقراطية الليبرالية الذي تخرج الجماهير مطالبة به في بقاع العالم، من الخرطوم الى ميانمار من الجزائر الى روسيا البيضاء مروراً بدول وعواصم كثيرة في عالمنا اليوم يبدو أنه يصاب بالخلل الجسيم في عقر داره. هذه المحاكمة لم تصل الى النتائج المرجوة ممن فعلها من الحزب الديموقراطي رغم فداحة ما قام به الرئيس السابق من انتهاك صارخ وواضح لكل القواعد الدستورية والقانونية المتعارف عليها، فهو لأشهر سبقت الانتخابات العامة في تشرين الثاني (نوفمبر) 2020 صرّح وتحدث وأعلن أنه الفائز لا ريب، وأن أي خسارة تحدث له سببها بالتأكيد هو سرقة الانتخابات! كما أصبح الوحيد من الرؤساء القادرين على حضور حفل التنصيب للرئيس الجديد الذي رفض في شكل قاطع أن يحضر ذلك الحفل،كما انه الرئيس الوحيد الذي دعا وشجع بعض مناصريه على الوقوف معطلين في كل مرحلة من مراحل العملية الانتخابية، فدعاهم أولاً الى التوجه لمقار الانتخاب من أجل وقف الفرز، وذهب بعضهم بالفعل مسلحاً، ثم طلب إعادة الفرز اكثر من مرة، ثم قرر أن يدعو الى اجتياح بيت الشعب "الكونغرس" من أجل التعطيل والأفضل تغيير آخر عملية شكلية في مسيرة الانتخابات، وهي تأكيد عدّ أصوات المجمع الانتخابي في الكونغرس، كل تلك الخطوات التي أضاءت عليها عملية تعنت ترامب كانت تلقائية في كل او معظم مسيرة الانتخابات الأميركية لقرنين من الزمان. ومن الواضح أن شخصية ترامب أقل توصيف لها أنها غير تقليدية، وربما يمكن توصيفها أدباً بأنها غريبة الأطوار لقائد أعظم قوة في العالم، لم يكن هناك خلاف على بعض سياساته، ولكن طريقة اتخاذ القرار وحتى سبل إعلانه عنها كانت غير مسبوقة وأخذت العالم الى مكان الشك بقدرة الولايات المتحدة على إصلاح الخلل الجسيم، فقد شكل سابقة ورقماً قياسياً في إنهاء أعمال كبار مساعديه ولم يتأخر بوصفهم بسوء بعد تركهم لمناصبهم، بل هدد بعضهم وهم على رأس عملهم بطردهم، واختار اشنع الألفاظ الاستفزازية للمختلفين معه حتى من داخل البيت الجمهوري، كما ادعى كثير من وسائل الإعلام الأميركية انه "يكذب كلما يتكلم"، وأساء الى الديموقراطية الليبرالية كما لم يُسئ اليها أكثر مناويئيها. القضية ليست هنا فقط و لكن للمراقب الذي يتخوف كثيراً من سقوط هذا المثال وإصابة الشعوب بالخيبة والتي تمنت وتسعى لإقامة ديموقراطية ليبرالية توازن بين الحق العام والخاص ونُؤمن للمواطن عيشه. إن أعضاء غالبية الحزب الجمهوري سائرون مع تغول السيد ترامب على أبسط قواعد المؤسسات الراسخة، لا لشيء إلا التحزب شبه الأعمى، هنا يكمن الخطر وهنا مبعث القلق من شرائح واسعة في هذا العالم الذي يتواصل بطريقة غير مسبوقة ويؤثر ويتأثر بما يدور بخاصة في الدول الكبرى. موقف غالبية أعضاء الحزب في مجلس الشيوخ مع الأخطاء الفادحة التي تم ارتكابها محير، فهل هو نقص في تكييف الأحداث والتي لا تحتاج الى الكثير من التمحيص، أم هو خوف من "وحش ضخم" تم خلقه متمثلاً برأي العوام يرغب الجميع باسترضائه وهو في هذه الفترة قيد أمر السيد ترامب! لذا لا يريد أحد أن يزعج هذا الوحش بل يتودد اليه لنيل رضاه في الانتخابات المقبلة؟ الأسئلة تلك نابعة من الأحداث التي تتكشف امامنا في صيرورة الديموقراطية الأميركية، ولكنها أيضاً مطروحة في معظم المجتمعات التي تعتمد على صندوق الانتخاب لفرز النخب الحاكمة. اذا استطاعت المؤسسات الأميركية ممثلة بالكونغرس أن تخرج بنص قانوني يمنع السيد ترامب من محاولة العودة للخوض في الشأن العام كمرشح، فسوف ترسل رسالة أنها في الطريق الصحيح الى الشفاء من خوف (الوحش)، أما اذا لم تستطع، فإن أمثاله سوف يحاولون العودة من جديد ويكون العوار وقتها غائصاً في لحمة التطور الديمقراطي والذي ينزلق كما حذر منه دوكفيل الى الاستبداد الهادئ الذي تخضع فيه الأغلبية بنحو سلبي الى الفردانية العنيدة و المضطربة المميزة لأي مستبد، وتصبح فيه الأغلبية "قطيعاً من الحيوانات الجبانة"!

مشاركة :