صفاء الصالح بي بي سي - فينيسيا جاء فيلم سوركوروف بمثابة صرخة تحذير في الوقت الذي تترى فيه أخبار تدمير الآثار والتحف الفنية في العراق وسوريا ترك المخرج الروسي القدير الكسندر سوكوروف بصمته في متحف الارميتاج الشهير إلى جانب كل التحف العظيمة التي يضمها من فناني مختلف العصور والبلدان، ليس عبر منحوتة أو لوحة تعلق على جدار، بل في نحت بالضوء وفي الزمن عبر تحفته الفنية رشان أرك أو الفلك الروسي، وكانت إنجازا نادرا في تاريخ السينما، إذ صور الفيلم بمجمله في لقطة واحدة متصلة وعلى مدى نحو 90 دقيقة. ويبدو أن القائمين على متحف اللوفر أرادوا لمسة مماثلة من سوكروف فاشتركوا في إنتاج فيلمه الجديد فرانكوفونيا الذي عرض في مهرجان فينسيا في دورته الـ 72 الجارية هذه الأيام. وتأخذ عودة سوكروف إلى المتحف، الموضوع الأثير لديه، أهمية خاصة في هذا الوقت الذي تترى فيه أخبار تدمير الآثار والشواخص والتحف الفنية في العراق وسوريا، لتشكل صرخة تحذير، وإن تأتي في صيغة استعارات تأملية وليس نداءً مباشرا، ضد ما يتهدد تراث الإنسانية ومنجزها الفني والجمالي الذي يرمز له سوكروف في فيلمه بسفينة ممتلئة بحاويات تختزن تحفا فنية وسط بحر هائج. فسوكروف هنا يضع المتحف، ذاكرة الحضارة الانسانية ومخزن منجزها الجمالي والثقافي، في مواجهة الحرب: النسيان والتدمير والبشاعة. فنراه يركز على علاقة خارج ما تطرحه الايديولوجيات المنتصرة والصور النمطية التي تروجها عن علاقة بين مدير متحف اللوفر وضابط نازي ارستقراطي، يجمعهما الحرص معا على انقاذ تراث الإنسانية ومنجزها الجمالي، مرموزا إليه هنا بمتحف اللوفر وسط طوفان الحرب العالمية الثانية. سفينة الحضارة الانسانية يقدم الفيلم، الذي يتخذ شكل مقالة تأملية شاعرية، خلطة يمكن أن نسميها سوكروفية بامتياز، فسوكروف بات أحد أصحاب الأساليب الفنية المميزة في المشهد السينمائي الراهن، واستطاع عبر أفلامه الروائية والوثائقية وحياته المهنية الطويلة أن يصنع بصمته الخاصة بين كبار مخرجي السينما المعاصرة. ومن سماته الأسلوبية هنا: المزاوجة بين الروائي والوثائقي واستخدام صوت السارد (وهو المخرج نفسه) بأسلوب أقرب إلى التداعي الحر أو تيار الوعي في الرواية، الذي سمح له بتقديم تأملاته ورؤاه المعرفية وتعليقاته أحيانا على ما يجري، بل ومحاورته للشخصيات بوصفه واحدا منها، فضلا عن مزواجة الأحلام والرؤى الخيالية مع الحدث الواقعي، وإن تراجعت عناصر أخرى من مميزاته الاسلوبية لكنها لم تختف كليا في هذا الفيلم ، كاللقطات الطويلة وحضور المشهد الطبيعي المميز لديه. يبدأ سوكروف خلطته بلقطات فوتغرافية لكبار رموز الثقافة الروسية، وتحديدا تشيخوف وتولستوي، بعضها تطهرهما على فراش الموت، ويخاطبهما بالاسم مستنهضا اياهما. ثم ننتقل إلى شاشة مظلمة وصوت حوار متقطع عبر السكايب مع قبطان سفينة تحمل حاويات تضم تحفا فنية ويبدو أنها وسط أمواج بحرعاتية وطقس سيء (استعارة القبطان هنا تذكر بفيلم سوكروف الوثائقي اعتراف: من يوميات قبطان الذي قدم في خمس حلقات تلفزيونية)، لكنها استعارة عامة تظل محورا أساسيا في بناء الفيلم وتجعله صرخة تحذير ضد ما يتهدد التراث الثقافي الإنساني من خطر، وكأنه فلك أو سفينة نوح (ثقافية) (لاحظ عنوان فيلمه آنف الذكر) وسط بحر الحروب والتدمير الهائج. وينتقل سوكروف بعد ذلك إلى باريس في الأربعينيات في فرنسا المحتلة من النازيين، ويستخدم مجموعة من الأشرطة الوثائقية تقدم لقطات من شوارع باريس الخالية ومحاولة الناس التأقلم مع الحياة تحت الاحتلال في تلك الفترة. كما يستعرض متحف اللوفر ومراحل بنائه، قبل أن ينتقل إلى خيطه الدرامي الرئيسي وهو العلاقة بين مدير متحف اللوفر جاك جوجار (أدى دوره الممثل لوي دو دي لونكساه) وضابط الماني هو الكونت فرانسس وولف مترنيخ (الممثل بنيامين أوتزغيت) الذي ترسله القيادة الألمانية للأشراف وحصر التحف الفنية التي يضمها متحف اللوفر والتي قام الفرنسيون بنقلها إلى أماكن سرية في قصور وبيوت ومخازن أسر مختلفة للحفاظ عليها. ويدفع عشق الرجلان، المثقفان، للفن وحرصهما على إنقاذ التراث الإنساني بهما للوقوف في خندق واحد لإنقاذ هذا التراث على الرغم من موقعيهما في جبهتين مختلفتين. فوجوجار، دفعه حرصه على أمانة حفظ اللوفر التي في عنقه إلى البقاء موظفا في الخدمة العامة في الادارة الفرنسية تحت الإحتلال النازي على الرغم من مغادرة العديد من زملائه. وثقافة ميترنيخ، الأرستقراطي العاشق للفنون، تجعله محملا بمهمة الحفاظ على هذا المنجز الفني الإنساني الكبير ومتحديا لقيادته ومنطق الحروب والتدمير الذي سارت عليه. إنها صورة عن علاقة استثنائية خارج سياق ركام الصور النمطية التي تمتلأ بها السينما والادب والثقافة الشعبية لهذا النمط من الشخصيات، كثقديم الاول في صيغة الخائن ما دام ارتضى التعاون مع المحتل، والثاني في صيغة الغازي المستبد والمتجبر. الذاكرة والنسيان ويستغل سوكروف هذه الحكاية ليقدم تأملاته عن علاقة الفن بالسلطة أو القوة بشكل أعم، ويستثمر معروضات اللوفر الغنية ليناقش اطروحته تلك بدءا من الثيران المجنحة وأفاريز القصور الآشورية ومنحوتاتها التي تمجد القوة (ويتوقف عندها طويلا) إلى الأعمال المعاصرة. وفي تجواله في المتحف يستحضر سوكروف شبحين يتجولان في المتحف، الأول لنابليون الذي يعزى إليه الفضل في إنشاء الكثير من مرافق المتحف وجلب تحف الحضارات الإنسانية المختلفة إليه، والثاني لماريان (رمز فرنسا والثورة الفرنسية) فنراهما يدوران في أروقته، نابليون مرددا كل هذا بفضلي أنا جلبت كل ذلك وماريان لا تردد سوى شعار الثورة الفرنسية حرية، مساواة، أخوة. ولا يعدم سوكروف أن يزج هنا أشرطة وثائقية أخرى من الأربعينيات، كتلك التي تظهر هتلر متجولا في باريس أمام برج ايفل أو متحف اللوفر. لا شك أن باريس هنا تتجاوز خصوصيتها كمكان لتصبح تجسيدا للثقافة الآوروبية، تلك الفكرة التي يلمح اليها سوكروف دائما، وركز عليها في فيلمه السابق رشان أرك جاعلا من الارميتاج رمز هذه الثقافة المشتركة ومن شبح القنصل الفرنسي في روسيا القرن التاسع عشر دليل السرد الأساسي الذي نتابع المشاهد من منظوره مقابل تعليقات الراوي (سوكروف نفسه) في بنية حوارية متقابلة بينهما. بيد أن سوكروف في تركيزه على مفهوم الثقافة الأوروبية، وهي قضية مهمة في روسيا الواقعة بين قارتين أوروبا وآسيا، لا يدعو إلى اندماج ثقافات البلدان الأوروبية في ثقافة واحدة بل على التركيز خصوصيات هذه الثقافات المختلفة ضمن هذه البوتقة الجامعة التي اسمها الثقافة الاوروبية، كما اشار في المؤتمر الصحفي الذي اعقب عرض الفيلم في الموسترا (مهرجان فينيسيا). وعلى الرغم من احترامه الشديد للثقافة الفرنسية وميله اليها يعود سوكروف للتساؤل والمقارنة مع ما فعله الألمان من قصف وتدمير طال المعالم والمنجزات الحضارية في مدن شرق أوروبا وما تضمه من تراث فني إنساني وتحف فنية عالمية ثرة، وبشكل خاص متحف الارميتاج في بطرسبورغ. الفن والسلطة ووسط هذه الانتقالات السردية يظل سوكروف يطرح تأملاته بحرية شديدة، فيتوقف، مثلا، عند أهمية رسم البورتريه في الثقافة الأوروبية ويراه انجازا أوروبيا خالصا بالمقارنة مع ثقافات أخرى لم تمل إلى التشخيص كالثقافة الإسلامية (يذكرنا هنا بالموضوعة الأساسية التي بنى عليها الروائي الحائز على جائزة نوبل أورهان باموق روايته اسمي أحمر). ووسط فيوضات الجمال والفن تلك يتألق المصور الفرنسي برونو ديلبونيل (الذي سبق أن عمل مع سوكروف في فيلمه السابق فاوست) في تجسيد رؤى المخرج وتأملاته تلك، فبدت صوره في غناها وتنوعها وألوانها وتوزيع الإنارة فيها اقرب إلى التحف الفنية نفسها التي يصورها وامتدادا لإجوائها، فنراه يستعير توزيع الألوان والضوء والكتل فيها، وطغي عليها لون أصفر مغبر مثل ذاك الذي نراه في صور الأماكن العتيقة. وحرص على تصوير المشاهد الروائية بمرشحات تظهرها أقرب إلى الافلام الوثائقية القديمة، بالأبيض والأسود، المصورة على أفلام السليولويد التقليدية المطلية بحبيبات هاليد الفضة. وعلى الرغم من موضوعة الفيلم التي تنهل من الثقافة الفرنسية واختيار متحف اللوفر مكانا لها، وعلى الرغم من كون سوكروف ضيف في العديد من دورات مهرجان كان، إلا انه اختار مهرجاني فينيسيا وتورنتو لعرض فيلمه هذا. وربما وقف وراء هذا الاختيار انحياز عاطفي، حيث أن مهرجان كان السينمائي لم يمنح سوكورف أيا من جوائزه الكبرى، ونوع من الوفاء لمهرجان فينيسيا الذي كرمه في عام 2011 بأسده الذهبي عن فيلمه فاوست، وهو الجزء الرابع من رباعيته عن السلطة وافساد الإنسان، الذي سبقته أفلامه الثلاثة الاولى مولوخ 1999 عن هتلر وتورس 2000 عن لينين والشمس عن الإمبراطور الياباني هيرو هيتو. لا شك أن ظلال فيلم رشان أرك تهيمن على فرانكوفونيا، ويظل الأخير دون الفيلم الأول، على الأقل في منجزه التقني، عندما قدم سوكروف فيه فيلما بنحو تسعين دقيقة في لقطة واحدة وبعشرات الشخصيات التاريخية ومئات الكومبارس بازيائهم واكسسوارتهم ومستلزمات بناء المشاهد التاريخية الأخرى، وأدارهم ببراعة في محاولة تصوير واحدة في هذه اللقطة الطويلة في متحف الارميتاج، الذي اعطي له لمدة 36 ساعة فقط حينها لانجاز مجمل فيلمه. إلا أن سوكروف حرص هذه المرة على التنويع الأسلوبي والهرب إلى فضاء التأملات والتعليقات والأرشيف الوثائقي، ربما لأنه لم يكن بالحرية ذاتها في تصويره في أرجاء اللوفر، لكن العمل في النهاية جاء تنويعا أسلوبيا ضمن بصمة سوكروف التي باتت مميزة في السينما العالمية، وصرخة الذاكرة التي يمثلها المتحف بوجه النسيان الذي تمثله الحروب والهمجية وكل ما يتهدد منجز الإنسان الحضاري
مشاركة :