الشعر زي الصعيدي تخونه مرة يخونك طول العمر.. بهذه العلاقة الخطيرة والعميقة وربما المحتدة ظل صاحبنا شاعراً يقظا وحقيقيا للناس، استقى القوة لحماية كلمته من روح الصعيدي الحر، والجرأة بقول ما يعنيه في حق الناس من حميمية القرى التي تجعل قلوب ساكنيها شبابيك مشرعة فتنبت في أرواحهم ما يهيئهم بأن يكونوا في صفوف بعضهم البعض على الغريب .. وعلى العالي عنهم والمتعالي عليهم.. وعلى الحزب والعسكر.. والحكومة..! وليس من المعقول أن نتحدث عن قدسية هذه العلاقة الممزوجة بالروح البدوية مع الشعر قاصدين بـ “ صاحبنا “ غير الأبنودي - خال الناس .. كل الناس. لا يكفي أن تكتب الشعر لتصبح شاعرا لدى المتلقي ما دمت غير قادر على أن تتحلى بشاعريتك قلبا وقالبا، وأن تكون القصيدة والعاطفة في حِماك تحت القصف وخلف قضبان السجن وفي كنف الحب كما فعل الأبنودي؛ فبذلك غشت مصداقيته جميع الناس على اختلاف شرائحهم وأجيالهم وأصولهم. وقد أعلن الأبنودي انحيازه تجاه القصيدة والناس والأرض في كل قصيدة ومع كل جرة حبر وشهقة نفس.. قاعد أنا عالجسر في القياله الرحمه من قلب اللهيب متشاله بطل على حالي والدنيا ساقية حزن سياله بعاني وحداني .. شياطيني لابساني والأمة قدامي مفرقاني ** يارب ما تحببني في الناس الملاح تاني يارب ماترجعني أعشق ضحكة إخواني ولا دعا أمي وهيه بتصلي وبتسمي يارب كرهني في أوطاني يارب كرهني في حلاوة اللقمة .. وطهارة الكلمة ..وفي كل شيء طيب وإنساني ** قاعد أنا والشمس كلها غل بيستخبي تحت توبي الظل أجتر همي بشكل حيواني ** يارب ما ترجعني أعشق خل نشف عروق الود في صوتي موتني وأزرع صحبتي بموتي كرهني في الغزل .. وشعلة الأمل .. والصبر على الأحمال كرهني في الجهاز .. وفي العمل وخدني ياربي على عجل قربت من كتر الملل أنسى أمل ياللي خلقت الأمة من غير قلب .. من غير حضن وخلقتها ما تحترمش الحزن مأساتي أني حزين. في 11 ابريل من عام 1938 م ولد الشاعر عبدالرحمن محمود أحمد عبدالوهاب الأبنودي في قرية “أبنود” بمحافظة قنا بجمهورية مصر التي نشأ وعاش بها في أجواء بها من القسوة والبساطة ما يكفي لتكوين شاعر؛ منها رعيه للغنم التي اتاحت له الحرية كما يعتقد ولقنته المسايسة والكر والفر، والفقر الذي أشبعه قدرة على الشعور بحاجات من حوله ، ومن أعظمها قسوة والده التي نما في ظلالها وجعلته قادرا على أن يخلق الحنان واللين في نفسه بطريقة معاكسة لما كان يتلقاه.. كتابة الشعر وحدها لا تجعل من الشاعر شاعراً ولد عبدالرحمن لأب متعلم في زمن لم يكن التعليم به متاحا خاصة مع تفشي الفقر، حتى أطلق عليه أهل القرية لقب “الشيخ الأبنودي” تأكد ذلك أكثر بعد صلاته بالناس وألقائه للخطب بصوت رنان وقراءة يكسوها اليقين والخشوع. بالإضافة لكونه أستاذ لغة عربية تخرج على يده كبار الأساتذة، وشاعرا ألف دواوين شعرية منها ثقيلة منها “بردة منحة المنان في مدح سيدة الأكوان”. ولأن كتابة الشعر وحدها لا تجعل من الشاعر شاعراً، كان والده “محمود” صورة للإنسان المجرد من عواطفه عند أهل بيته، وقد خلق بينه وبين أبنائه – عبدالرحمن وأخوته-مسافة شاسعة وعلى الرغم من مرارة وغربة امتداد هذه المسافة إلا أنها أرحب وألطف من قربه الشرس، حتى أن الخال عبدالرحمن يذكر أول مرة رأى فيها أباه يضحك بالصدفة مع أقرانه، وما أن انتبه لوجوده توقف واستعاد وجهه الأبوي المحايد، وقال الخال الأبنودي لمحمد توفيق الذي لازمه لفترة طويلة في حديث جمعهما عن والده: “ربما هذا هو الذي أدى بنا جميعا كل أولاده – رحمه الله- إلى أن يملأوا بيوتهم ضحكا وبهجة طوال اليوم.” أنا رايح أبل قميصي مية نهر.. ونسمة عصر بعيد عن كل باب أو عين أكون هدمتي عالشط .. و اتدارى عن الفايتين في ماء النهر عن النخلة .. وعن ظل السما والشمس اتدارى .. ثلاث غطسات تذوب دهني وهمومي.. أنا رايح .. وعمري ما رحت.. إذا يمكن لقيت جدعان تروح النهر.. أروح النهر أروح.. وأبكي.. وأرمي جسمي واتمردغ في ماء النهر وأصرخ في الهوى والريح .. وأبكي بكاء ماتعرفهوش ..وأنزل قهر وأخرج للجسور عاري .. وأقول بلواي للواطن وللعابر لابد في ليلة حاتكلم .. ولو ليلة غياب الشهر ** لقيت جدعان .. ولما نزلوا ماء النهر.. رجعت وجيت ماهوش دول الصحاب .. والنهر نفس النهر .. غير النهر رجعت لوحدي تاني وجيت .. دخلت البيت.. أنا رايح أبل قميصي مية نهر..وأطبش في المياه بايدي .. وافك الحزن عن قلبي .. واخرج للهوى والشمس .. وعمري ما رحت.. العربي براااح مالا نحمله من والدينا بالجينات نحمله بالتطبع، فقد ورث عبدالرحمن من والده حب الشعر إلا أنه يستحال التحكم في نهج صعيدي -وهذا من حظنا- لذا جاء شعره مختلفا عن شعر والده ومجدداً. كما ورث من أمه “ فاطمة قنديل “ العاطفة والحب والغناء والقدرة على الخيال وفن الحكي التي كانت تتحلى بها ككل سيدات ذلك الزمن حين كان الفن والغناء حيلتهن الوحيدة.. أما بالنسبة للتعليم فلم يكن لقرية أبنود في مطلع الأربعينات نصيبا من التعليم، حيث كانت القرية تتحلى بنور مدرسة واحدة متواضعة تشبه الكتاتيب القديمة ، ومن البديهي ألا يروق هذا الجو القاتم والضيق للصعيدي الصغير أمام براح الحقول وحرية الرعي، لكن مع انتقاله لمدينة “قنا” بدأت رحلته الجادة في التعليم بمدرسة “سيدي عبدالرحيم الابتدائية” و بدأ عشقه للغة العربية والمدرسة والكتاب، بفضل مدرس اللغة العربية “ أحمد عمر” الذي شجعه ومكنه من إلقاء أول خطبة كتبها في مسرح المدرسة. وعلى النقيض تماما جاء نفوره من حصص الحساب وأستاذ الحساب، وهذه واحده من انحيازات الصعيدي المعلنة في مشاعره.. يقول الخال واصفا الحساب : “ الحساب يدخلك في عالم هندسة مقفول وأنت العالم بتاعك حر.. وتجد الشاطر في الحساب ما يعرفش حاجة غيره، أما العربي فـ براااح” ثم درس بجامعة القاهرة في الستينات الميلادية، بصحبة صديق الثانوية “أمل دنقل” ثم عمل كاتب جلسة بدائرة دعاوى غير المسلمين ، ومنها انتقل إلى دائرة الأحوال الشخصية للمسلمين، لكنه لم يتمكن من التحلي بالصمت طويلا أمام فساد النظام الإداري داخل المحكمة وهذا ما جعله يقدم استقالته في مارس عام 1962 بعد أن كشف كل ما شهده من فساد في أوراق استقالته. وتزامنت استقالته مع استقالة صديق الدراسة “ أمل دنقل “ الذي اتخذ قراره في نفس الوقت من عمله كمحضر لدى المحكمة، وكرسا جهدهما بكتابة الشعر، أحدهما بالشعر العامي والأخر بالشعر الفصيح. وكانت علاقة الأبنودي وأمل ويحيى الطاهر من أجمل العلاقات الأخوية المكللة بالشعر والقراءة والفلسفة والكثير من الجنون ولا يفترقون ابدا حتى رحل يحيى الطاهر ورثوه بأعذب القصائد. بتحبك صُح الصُّح نظل مدركين للمنطق حتى يدق القلب دقته المعروفة والتي لا يعي رنتها مبكرا، سوى صاحب القلب الذي يحيله شيء ما مبهم للطفو في فضاءات الأخر دون أن يصنفه، ولا تنشأ الملاحظة لما يتكون بينه وبين الأخر خفية إلا من خلال البحث عن الإجابة حين يُسأل عنه لأول مرة.. وحده الحب قادر على مزج الأرواح ببعضها ناسفا ملامح الاختلاف والفوارق، وإلا ما الذي يجمع “بنت البيه” أو “بنت الناس” - كما وصفها الخال - بابن البلد “اللي قد أبوها” -كما وصفوه الناس-.! جاءت “نهال كامل” من عالم مختلف، سهل وممتنع، لم تعرف شيء عن حياة المشقة والفقر والغلب وحاجات الفلاحيين والجهة الأخرى من مصر سوى ما قرأته في شعر الأبنودي، فقد كانت حريصة على قراءة أعماله وشراء دواوينه والاستماع لقصائده طوال طفولتها وسنوات دراستها، حتى تخرجت من جامعة الإسكندرية، وتمكنت من العمل بالإذاعة ثم التلفزيون، وقدمت أول برامجها الذي يجمع بين شعراء جيل الكبار وشعراء جيل الشباب، وقررت في حلقة خصصت للشعر العامي أن تستضيف الشاعر عبد الرحمن الأبنودي. ونشأت بينهما علاقة صداقة لا تخلو من روح الأبوة لما يفرضه فارق السن بينهما، خاصة وأن نهال كانت تستشيره في بعض أمورها وكان هو كثير النصح لها، وانتظمت بينهما المكالمات والزيارات في بعض الأحيان حتى أهداها الخال ديوانه “ الفصول”. إلا أن الأقدار تمكنت من كشف ما يتكون بينهما خفية. استمرت العلاقة في إطار الأبوة حتى دعاها يوما لزيارة أمه “ فاطمة قنديل “ وعندما وصلت نهال إلى البيت، لم تجد الخال الأبنودي لارتباطه بتقديم أغاني إحدى المسلسلات التي قدمها وكان قد نسي الموعد، هذا اللقاء الذي جمع نهال بوالدته كان كفيلا بأن يطلق سراح الشرارة الأولى المختبئة خلف قيود منطقهما. حين عاد الخال إلى المنزل أخبرته والدته عن زيارة نهال وطلبت منه أن يتزوجها... نعم، هكذا بدون مقدمات..! ذلك كان أبعد من الخيال في مقاييس الواقع بالنسبة للخال، حيث رد عليها قائلا: “ يامّه أنتي اتجنيتي ..دا أنا قد أبوها..!!” لكن “فاطمة قنديل” تنبهت لتآلف أرواحهما رغم رد فعل ابنها العكسي إما بحدس الأمهات أو بقدرة السيدات على استشعار بعضهن، وقالت بحسم: “بتحبك صحُ الصُّح.. وحياة فاطمة قنديل دي أم عيالك..!!” بطبيعة الحال وككل الذين يستيقظون على وقوعهم في فخ الغرام ، لم يكن لدى الخال وقت طويل للتفكير بمجازفة التشبث بالقشة الوحيدة التي يقدمها له الواقع لتحقيق الحلم الذي اشعل فتيله خيال أمه الواسع، فقرر بسرعة رهيبة وعفوية أن يخبر نهال بما قالته والدته في أول مكالمة جمعتهما بعد زيارتها لمنزله، وسرعان ما أخذت العلاقة منحنى أخر مكلل بالحب والصدق والانسجام، حتى صار الخيال حقيقة وارتبطت نهال – بنت البيه – بالخال الأبنودي – ابن البلد اللي قد أبوها - ، وأثمرت العلاقة بـ آية ونور والكثير من الحب المعلن والمؤكد على الرغم من كل ما واجهته هذه العلاقة من ضدية وموانع عائلية وشائعات. حيث أدعى بعض المقربين منهما أن الخال عبدالرحمن يعاني من أزمة منتصف العمر و أن علاقتهما نزوة وستمر، و كان وصولهما للزواج صدمة للكثير جعلهما حديث الصحف والإعلام وأثر على مهنة نهال وتم استبعادها من البرامج المهمة في ذلك الوقت. وبالفعل لم تكن العلاقة سهلة بين نهال والخال عبدالرحمن، فكلاهما تعرض لضغوط كبيرة بسبب المواجهة والهجوم، إضافة لاختلاف طبيعة كل منهما، لكن وعيهما بقيمة واختلاف الحب الذي يجمهما جعل كل منهما يفسح للأخر مجالاً للتلاقي بسهولة وسرعة. كما عزز وجود آية ونور هذا التلاحم وردم أخر بقايا الفوارق بينهما. وكتب الخال أثناء معركتهما الشرسة ضد العالم مدافعا عن الحب الذي يجمعهما بعلاقة غير نمطية أجمل القصائد منها “ طبعا أحباب “ و”قبل النهاردة” وكلاهما غنتهما الفنانة العظيمة ورد الجزائرية. انا يا ما قلت خلاص وقلت فات الوقت واتاري عمري يا ناس بيبتدي دا الوقت وكأني اول مره ابتسم وكأن عمر القلب ما اتألم بتعلم الدنيا من الأول من الأول وكلمة قلتها قبل النهار ده ماهيش صوتي وانا ما قلتهاش وضحكه ضحكتها قبل النهار ده ما هيش مني وانا ما ضحكتهاش القصائد .. اكتبها من أجل أن تتأكد ثقتك بحياتنا وقدرتنا على الاستمرار لم يكن حب الخال لنهال قد تدرج في حياته بل جاء دفعة واحدة، حتى سطت نهال –”قطرة ندى قادمة من سحاب بعيد” -على حد وصفه - على اهداءات دواوينه بأعذب وأصدق الكلمات التي يخشع لها القلب وبخط يده. وفي واحدة من الاهداءات التي تكشف كفاح الخال في استمرار علاقتهما كتب: “ نهال.. لولا روحك التي تنشر السكينة على أيام الحياة .. ولولا فرحك بما أحقق فما كانت هذه القصائد لأني في الغالب الأعم كما اكتبها لأهل الدنيا اكتبها من أجل أن تتأكد ثقتك بحياتنا وقدرتنا على الاستمرار. المحب عبد الرحمن الأبنودي” وكان يعتبر علاقته بها متجسدة في علاقة “ حراجي القط” وفاطنة أحمد عبد الغفار” الذي جاءت كملحمة شعرية يدور الحديث فيها بين الفلاح حراجي وزوجته البعيدة بأعذب القصائد الرومانسية الملطخة بغلب الإنسان الفقير. حيث لقبها بـ”بفاطنة” عندما اهدى لها ديوان “الأخطاء المقصودة”. “الجِبة واسعة على مَعاليك .. والكرسيّ مِتهزّ..مَقَامُه” ما جاء لقب الخال وشاعر الناس مما قاله الأبنودي في شعره فقط .. فإن عاد الأمر للكتابة والكلام جميعنا أهل وأحباب وأبطال حتى، لكن العلاقة الحميمية بين الناس والخال الأبنودي جاءت مما جسده من مواقف أملتها عليه عاطفته و مسؤوليته تجاه الوطن والإنسان، والمرات التي استدعي فيها الخال والمراقبة المشددة عليه والتهديد تصور كيف تمكن من تسخير شعره للتعبير عن الحقيقة، ولا شك أن لذلك التعبير ثمنه المجزي و الذي لم يكن كثيرا بالنسبة لصعيدي حر قادر على استنزاف نفسه لحماية ولاؤه. للأبنودي جملة من القصائد التي تعد بمثابة موقف معلن تسببت في اعتقاله لعدة مرات، لكنه بقي متصالحا مع الثمن الذي يدفعه في كل مرة. سجن الخال في عهد جمال عبدالناصر وفي فترة السجن كتب الجزء الثاني من ديوان “أحمد سماعين .. سيرة انسان” -ديوان واسع يصل إلى ثلاثة أجزاء - مع مجموعة من المثقفين أحدهم غالب هلسا ، وصدر القرار بالإفراج عن الأبنودي ورفاقه بشفاعة من المفكر” جان بول سارتر” الذي علق زيارته لمصر بالإفراج عنهم ووافق عبدالناصر بشرط ألا يتم الإفراج عنهم إلا حين يصل إلى أراضي مصر. نعم، جمال عبد الناصر الذي عاد الخال ومدحه بعد أكثر من ثلاثين عام قائلا: من بعد ما شفنا غيره .. فهمنا عهد جمال ياما انتصر.. ياما حَرَنِ المُهْر بالخيَّال. هل كان وجودُه العظيم.. حقيقة والاّ خَيَال؟ أسطورة حية.. مازالت عاصية عَ الموال!! كما قامت الحكومة بالتضييق عليه حين رفض محاولات استقطابه ليكون منحازا لها في زمن السادات بعد إصدار ديوانه “وجوه على الشط” وذلك من خلال رسالة صرح فيها بالفم المليان بأنه من “الشارع المصري وأنه مش بتاع حد” وقد روي ذلك في قصيدة “سوق العصر” حين قال بأخرها: “ أنا شاعر .. جاي من ضمير الشعب” ثم كتب “الأحزان العادية” في يناير وفي الشهر التالي كتب “ المد والجزر” وبعدها “ لاشك أنك مجنون” وكتب في عهد السادات ما لم يكتبه بأي عهد أخر، وهذا السبب وراء استدعاء نيابة أمن الدولة العليا له ومن قبل المدعي العام الاشتراكي الذي نفذ منهما بالصدفة حين حاولت” واشنطن بوست “ عمل حوار معه، وفوجيء أعضاء الفريق بوجوده في التحقيق فكتبوا “ السادات يحاكم شاعر الفقراء”، وكان ذلك كفيلاً بأن تتراجع الجهات وتطلق الخال من التحقيق بهدوء وبسرعة، املا بأن يتم الاقتصاص منه بطريقة أخرى إلا أن رحيل السادات جاء قبل نفاذ ذلك. وربما من يرى كتابة الأبنودي عن جمال عبد الناصر بعد ثلاثين عاماً من اعتقاله في عصره حين كان معارضا له، وكتابته عن السادات بعد موته يظن أن سوء الوضع وتدهور دائرة الحكم هي التي تجعله “يرى خيرهم بعد ما يجرب غيرهم” لكن ذلك كان حقيقيا فقط بالنسبة لكتابته عن عبد الناصر. أما بالنسبة لكتابته عن السادات فالسبب كما قاله: “الحرية التي تجعل الإنسان يطالب بالأفضل والأكرم للشعب هي ذاتها التي تدفعه لرفض اغتيال الحاكم..” فقال قصيدة” المتهم”. حتى حسني مبارك كان له نصيب من نزاهة الشاعر الأبنودي، “ لكن الأبنودي قرر أن يعلن موقفه له بصراحة حيث قال له:” بناء الكباري مش كفاية. وأنت تقدر تعمل كتير.” لم يقصد الخال تقمص دور البطولة ابداً لكنه قصد أن يحافظ على كونه مواطناً وفي صف الناس والبلد. ولعل الطاقة الشعرية وصلت ذروتها عندما وصل محمد مرسي إلى قصر الرئاسة حيث كتب رائعته “ آن الآوان يا مصر” وتمكن من كتابة المربعات التي استمرت لمدة سنة كاملة في “جريدة التحرير” وتميزت بطابع السخرية حيث كتب في إحدى مربعاته: أنا لو بقيت الرئيس هاعيِّن أصحابي أمَّال هسيبها كده تنهبها غربانكم؟ هلكت ياما لحدّ ما جات على بابي بقى تطْفحوا انتوا الرغيف وأنا أبقى عجانكم؟ كانت هذه المربعات بمثابة رصد يومي لما يدور في مصر من أحداث سياسية بشعره، وضمت المربعات ما حدث في مصر طيلة العام لتوثق للأجيال القادمة الفترة الحرجة التي مرت بها مصر حين حكمها الأخوان واستمرت بعد رحيل مرسي بشهرين. قصيدة يا منة المشكلة الوحيدة هي أن لا شيء في هذه الحياة يحمل “ شعار الختام”، فلا يأتي اليوم الأخير مختوما بأنه أخر أيام العمر، ولا يمكنك الشهيق بما يفيدك بأنه أخر ما ستزفره. إن صعوبة الموت ليست بحضوره بحد ذاته وما يوجبه من تبعات نرفضها؛ فما فرق الموت يوما أحدا عنا، ولم يمت من كان الموت أول وأخر ما حال بيننا وبينه، بل يموت الجمع الغفير الذي يتمكن من الحياة بعيدا عن ظلالنا المعهودة، لكن صعوبة الموت تكمن بحلوله المفاجئ الذي يربك استيعابنا، وباختطافه الذي يمنعنا من قول كلمتنا الأخيرة واستشعار المشهد الأخير بيننا وبين الراحلون. حين خرج الخال الأبنودي في العيد الأخير الذي جمعه بعمته يامنة لم يكن يعلم أنه الأخير، وأنها حين سألته: “ هتيجي العيد الجاي وتشرب شاي..! “ كانت هذه الإشارة التي نثرها له القدر في حديثها معه، فأجابها بأمل الإنسان وغلبه:” هاجي ياعمة “. جاء خبر وفاة “العمة يامنة “ صادما على الخال الأبنودي كمن أوقع فضاء كبيرا شاسع داخل مجرة صغيرة ضيقة، لا يسعها حتى الانفجار به، فحين علم الخال بالخبر بعد أسبوع من وفاتها وتحديدا بالعيد حين قرر زيارتها في قرية “أبنود”، عاد منها مثقلا بالذكريات إلى بيته وبكاها حبرا على طاولة المطبخ وكتب قصيدته الشهيرة عنها في غضون عشر دقائق، مستعيد بها أخر لقاء جمعهما. بقيت هذه القصيدة معلقة في أذهان جمهوره وأصدقائه الشعراء، منهم الشاعر الفلسطيني الكبير “محمود دروييش “حيث قال له مرة ماذحاً أياه بما يشبه الذم: “الله يخرب بيتك يا أبنودي” وذلك بعد أن قراءته للقصيدة مباشرة؛ لأنه كان يريد أن يكتب قصيدة عن والدته وشعر أن لا حاجة للكتابة عن أي أم بالدنيا، فالأبنودي كتب بهذه القصيدة كل ما يمكن أن يكتب عن الأمهات. يقول الخال الأبنودي في مقطع منها على لسان العمة يامنه: قِدِم البيت اتهدّت قبله بيوت وبيوت وأصيل هوه مستنيني لما أموت حتيجي العيد الجاي وإذا جيت.. حتجيني الجاي؟ وحتشرب مع يامنة الشاي؟ حاجي يا عمَّة.. وجِيت... لا لقيت يامنة ولا البيت!! كان الخال الأبنودي قريبا في كل شيء، كان إنتاجه معبرا عن كل ما يحدث حوله، كان خالنا بالفعل. وتتميز أعمال الخال بأنها متجسده داخل أحداث ووقائع اجتماعية ومتمثلة في أبطال هم أشخاص واقعه مثل: “يامنة” و “أحمد سماعين .. سيرة انسان” و” وجوابات حراجي القط “ الشهيرة والمتمثلة بصديقه الفلاح القديم الذي تخيله مسافرا لبناء السد العالي ويكتب رسائل لزوجته، وشكلت أقوى علاقة حب خيالية في عالم الشعر. حيث كتب الأبنودي على لسان حراجي لزوجته فاطمة بإحدى الرسائل: في الراديو يا فاطنة بيقولوا: بنينا السد.. بنينا السد لكن ما حدش قال السد بناه مين بنوه كِيف نايمين ولّا قاعدين! وكانت ترد عليه زوجته التي تقنعه بالعودة قائله: أهي هيّه هيّه الحدوتة مش كنت هنا بتزرع في أراضي الغير وآخر الحول تكون تهديت والغير ياخد الخير؟ عندك نفس القصة يا حراجي صدق فاطنة وتعال هات الرجال وتعال لو راح يدوك كانوا ادولك هما ما عاوزين منك يا حراجي غير حيلك.. ويكتب على لسان زوجة حواجي رسائل أخرى عن علل الشوق والمغيب: زوجي الغالي الأسطى حراجي القط العامل في السد العالي أما عن إن احنا بنتشوق لك فاحنا بنتشوق والشوق في قلوبنا ناسس نسسان ولا يمنعناش من شوقنا ليكم حتى قطع الخطابات ياسلام والله ياحراجي يا سلام ولعل أبرز الأعمال التي يرتبط بها اسم الأبنودي هي “السيرة الهلالية”، والتي يعد جمعها من أصعب المهام التي تستلزم البحث والسفر، وقد قادها إليها عشقه لها وإصراره على تخليد اسمه بمنتج رفيع يجمعه ويحفظه من الضياع.واستغرقت رحلته في جمعها سنوات، ليتحرى مصادرها من مختلف الأفواه والبلدان والحدود ومراكز الفنون. وعاشت ملحمة السيرة الهلالية أكثر من أي شيء أخر كتبه لما تحققه من توحيد للأمة العربية، ولكونها تاريخ شفاهي عاشته الشعوب العربية وحافظه للقيم، فهي تروي وقائع حدثت في سياق درامي وفني. ليس لملعب الأبنودي حدودا لذا فإننا نجده أيضا في غير الشعر، فقد تجلى أبداعه في كتابة حوارات المسلسلات كما فعل بحوار مسلسل “ وادي الملك” المأخوذ من قصة غائم في البر الغربي” للأديب محمد المنسي قنديل. سبق هذا العمل تجارب سريعة وعديدة في إعادة كتابة حوارات أعدت للأفلام ناجحة مثل فيلم “ شيء من الخوف” عن قصة الأديب ثورة أباظة خلال يومين فقط، وجاء بعدها كتابة النص السينمائي لمسرحية “أغنية الموت” مع فاتن حمامة خلال ثلاثة أيام فقط. أما عن كتابته للأغاني الشعبية فبدأت بأول ثلاث أغانٍ كتبها دفعة واحدة أولها عن السد العالي وقد غناها محمد قنديل والثانية “ بالسلامة يا حبيبي بالسلامة”، أما الثالثة فكانت “ تحت الشجر ياوهيبة” والتي غناها محمد رشدي، وبعدها أغنية “عدوية” التي تعد ثاني عمل جمعه بمحمد رشدي وأول عمل يجمعه ببليغ حمدي الذي لحن الأغنية، ومن هنا تشكل الثلاثي الأبنودي ورشدي وبليغ في الساحة الفنية حينها. من أشهر الأغاني التي كتبها أغنية “أنا كل ما أقول التوبة يا بويا” التي غناها عبدالحليم حافظ والذي صعد نجمهما أكثر وأكثر حين عملا أغنية “ موال النهار” التي كانت ترفع معنويات الشعب كله ورئيسهم أيضا. وأدت إلى ولادة علاقة صداقة متينة بينه وبين الفنان عبدالحليم حافظ، حيث رثاه في قصيدة أليمة تظهر عمق العلاقة الفنية المكللة بتشابهما وشراكتهما في الحلم والهم، قال بها: فينك نغني تاني موال النهار يا صاحب الرحلة ف طريق الشوك أنت ما متُش هَمّ شِبْعوا موت المسألة مش صوت المسألة هَمّ الجميع يتحضن المسألة تترجم المعاناة .. وطن وسرعان ما تعمق في المجال وبادر بكتابة الأغنية الكلاسيكية، حين قدم أغنية “ مشيت على الأشواك” لعبدالحليم حافظ، بالإضافة لتعاونه مع الفنانة صباح في أغنية “ساعات ساعات “. وظل يراهن على نفسه في هذا المجال حين بادر بكتابة أغنية “عيون القلب” لنجاة. ولا يمكن حصر عدد الأغاني ولا المطربين الذين تعاون معهم الخال في مجال كتابة الأغنية، فقد شمل ذلك مختلف الفنانين منذ الستينات، ولعل أكثر الأعمال التي أظهرت انسجام الأبنودي ككاتب مع المغني هي الأعمال التي جمعته بعلي الحجار، ومحمد منير. السخرية والنبوءة. السخرية والنبوءة أكثر ما يميز أعمال عبدالرحمن الأبنودي، فكل ما اختزل الألم في الكلمات لحقها بسخرية لاذعة كعادة الإنسان القوي الذي يأبى حالة الألم العادية، ويظهر ذلك في كل أعماله تقريبا منها قصيدة “أخر الزمر” التي كانت من مطلعها حتى نهايتها صورة للكوميديا السوداء ومنها قصيدة “الأحزان العادية” التي قال بها: قلت لنفسي وبعدين راح تفضل كده لامتى ياغلبان؟ بتداري إيه؟ إيه باقي تاني عشان تبقى عليه؟ وطنك؟ متباع سرّك؟ متذاع الدنيا حويطة وأنت بتاع! أما النبوءة فما كتبه أثناء ثورات مصر يشهد له بذلك، منها موقفه بعد مرور ثورة يناير حين أكد أنها بروفة أولى للثورة الحقيقة التالية على الرغم من أنه لم يكن هناك أي بوادر لحدوث أمر مثل ذلك وكان الجميع يجني ثمار الثورة، تقدم هو وقال: لو عن سقوط النظام .. لسه النظام ما سقطش! بعد كل هذا الزخم من المواقف والعاطفة والشعر، كيف يمكن أن أصغ لك أيها القارئ نهاية حياة الأبنودي ووفاته! تخيل أن الأبنودي رحل! كما رحل أمل دنقل ويحيى طاهر وعبدالحليم حافظ ومحمد رشدي والعمة يامنة والأم فاطمة قنديل.. أعلنت رئتاه انهزامها أمام كم التبغ الذي يحرقه من أجل الكتابة وتجلطت إحدى قدميه أثر ذلك، وبدأ المرض يقيم في جسده رغم تجاهل الخال له حيث قال في لقاء له وهو على فراش المرض:« مش أنا .. الراجل اللي جوايا بيكتب يرفض حقيقة أني عيان»، وظل يتعامل بكامل روحه أمام الجميع، وهو مرتب أدق تفاصيل نعشه ورحيله لزوجته وبناته، وفي 21 أبريل 2015م صدقت نبوءته - كالعادة - ورحل كما يرحل الأعزاء الذين لم يحل شيء بيننا وبينهم سوى الموت.. الوداع يا صوتي ما عدتش أصيل الوداع يا قلبي مانتاش قلب نيل الوداع يا طين بلادي يا مش جميل الوداع يا نيل أنا مش شاعرك ولا في إمكاني هز مشاعرك
مشاركة :