يتمتع مدير معهد العالم العربي في باريس الدكتور معجب الزهراني بكاريزما جاذبة تشد من يعرفه من نياط القلب ليتعلق به، مهذّب فكرياً، ومقتدر ثقافياً، وله قدرة قرائية باللغات الثلاث (العربية، الإنجليزية، الفرنسية) ما أسهم في ثراء مصطلحاته، وتعدد مصباته، ورحابة صدره، ورغم كل التأسيس الذي لم يبلغه كثير من أقرانه إلا أنه يصدم من يسأله عن مشروعه، بأنه لم يفكّر في مشروع نقدي، ولم يقتنع كثيراً بوجاهة النشر، ويؤكد أنه انتقى بحوث ترقياته الأكاديمية بعناية تفادياً لإثارة أي إشكالات أو صدامات. يتذمر من الكلام الذي يطول ولا يقول جدياً ولا جديداً، ومنذ اختياره مديراً للمعهد عام 2016، لم يتخلّف عن موعد حضوره اليومي في السابعة صباحاً، وعمل بكل تفانٍ على إنشاء كرسي الأدب فور وصوله، ونظّم من خلاله أنشطة منبرية، وتكريمات لكبار الباحثين والمفكرين العرب، وافتتح كرسي عبدالله العروي بكلية الآداب في جامعة محمد الخامس بالمغرب، وأصدر المعهد سلسلة موسوعية بعنوان «مائة كتاب وكتاب» بالشراكة مع جائزة الملك فيصل. وهنا نص حوارنا مع الضيف الفرانكفوني:• هل كتابة المكان إحياء أم إماتة لذكراه؟•• بل هي إحياء واحتفال بالمكان الذي نحب ونفتقد. ذلك لأنه جزء من تلك الفضاءات التي تشكل إطاراً حميماً لتجاربنا، وتعد سياجاً منيعاً لذكرياتنا. وقد أذهب للأبعد فأقول إن المكان بهذا المعنى المتسع هو المختبر الحقيقي الوحيد لما نسميه الحياة وليس للكتابة فحسب، وذلك لأن الزمن مفهوم سيال مجرد. تحاول اللغة القبض على أثره دون كبير جدوى رغم أنه يحدد البعد الجوهري الثاني للوجود.• لماذا تأخرتَ نسبياً عن كتابة الرواية؟•• لم أتأخر عن شكل كتابي. لم يكن ليشغلني من قبل. فعلاً لم تكن الرواية ضمن مشروعاتي الكتابية أبداً، وقد جاءت «رقص» استراحة مشتهاة مستحقة في طريق الرحلة الأكاديمية الطويلة نسبياً. لهذا السبب لا أعود إليها إلا وأجدها نصاً سردياً مفتوحاً على أشكال فنية متنوعة تتجاور فيها فنون الخبر كلها، ومن علوم الديرة حتى الأحلام والتأملات والقصص القصيرة. جربت الشكل الشعري أيام الجامعة وتوهمت أنني ميسر له فنشرت بعض محاولاتي في الصحف، لكني لم أراهن على الشِّعر، من بعد إلا كمتعة خاصة، هذا مع أنني فزت بجائزة حين نُظمت مسابقة لكتابة قصيدة تحاكي قافية المتنبي الشهيرة «أرق على أرق..».• ماذا يضيف الروائي الشيخ للعمل السردي مما يفوت الشباب؟•• لعل هذا سؤال يوجه إلى روائي محترف بحجم نجيب محفوظ، أو واسيني الأعرج، أو صديقنا عبده خال. ولا أقولها تهرباً من تهمة التقدم في السن، بل لأن أصحاب التجارب الروائية الممتدة هم الأقدر على الجدل مع مغامرات الأجيال الجديدة التي عادة ما تنزع إلى تحطيم الأصنام. من جهتي أذكر بأنني أعلنت غير مرة التوقف عن انشغالي الأساسي وهو الكتابة النقدية العارفة المحترفة، للتوجه إلى ما أسميه «كتابة الذات» ما تبقى من الوقت. وما زلت وفيّاً لذاتي وقراري.• ما انطباعاتك وأنت ترى وطنك من خارج الدائرة؟•• الوطن صورة كبرى تتشخص في فضاءات كثيرة تظل تتشكل فينا منذ الطفولة حتى تصبح فكرة عميقة تسكن داخل كل منا؛ ولذا لا يمكن أن نراها عن بُعد ولو أردنا. لا غرابة أن تُسمّي لغتنا الكريمة الجميلة البيت وطناً، وكذلك القرية والديرة والمنطقة والمدينة، بينما مجازها السياسي - القانوني الأكبر والأشمل حديث جدّاً في كل اللغات والثقافات. نعم، لا شك أن المسافة التي تفصلنا عن الوطن لفترة بسيطة قد تتيح لنا رؤيته كمرآة تعكس أحلامنا وطموحاتنا ورهاناتنا وحتى خيباتنا وخساراتنا، لكنها لا تغير طبيعة العلاقة العميقة بين الذات ومرآتها. لقد تزامنت التحولات الجذرية الأخيرة مع تغريبتي الباريسية الأخيرة؛ ولذا فكثيراً ما أقرأ وأسمع وأرى وأنا بين مصدق ومكذب. فأنا من جيل ظل ينشد وينتظر الإصلاحات والتوجهات الجديدة منذ عقود كما ذكرته في سيرة الوقت. وكل أملي الآن أن تتصل وتتنوع وتتعمق المبادرات حتى تصبح مساراً عادياً ينخرط فيه الجيل الجديد كما لو كان يسلك في دروبه المعتادة الواعدة.• ما أبرز مشاريع معهد العالم العربي المنجزة والمجدولة؟•• يتعذر تماماً إحصاء مشاريع المعهد؛ لأنها كثيرة متنوعة ومتصلة منذ عقود. صاحبت معارض كبيرة غاية في الأهمية منها «معرض مغامرو البحر»، «كنوز الإسلام في إفريقيا»، «مسيحيو الشرق»، «المدن الألفية المهددة بالدمار». إلا أن المشروع الذي أثار اهتمامي أكثر من غيره هو معرض «العلا أعجوبة بلاد العرب» الذي صادف نجاحاً كبيراً فاق توقعاتنا فطلبته جهات كثيرة في أوروبا، ومددنا له مرتين بسبب كثرة الإقبال عليه، ولولا جائحة كورونا لاستمر ثلاثة أشهر أخرى. الآن هناك معرض جذاب عن المطربات العربيات، تأجل افتتاحه مرتين وأرجو أن يدشن في الربيع القادم. أما الأنشطة الثقافية والفنية اليومية والأسبوعية بالمعهد فأزعم أنها قد تفوق عدداً وأهمية مجمل أنشطة وزارات الثقافة في العالم العربي من خليجه إلى محيطه!. ومنطقي تماماً أن تظل أنشطة كرسي المعهد التي توالت خلال ثلاث سنوات في باريس وفرنسا وفي عديد الحواضر العربية مصدر اعتزاز خاص؛ لأنها بمثابة المنجز الشخصي الذي بادرت إليه.• أين وصل الدكتور معجب في مشروعه الكتابي؟•• لا أحب الحديث عن مشروع كتابي محدد سلفاً؛ لأن كل كتابة هي مغامرة جديدة لا يعرف الكاتب ذاته مآلاتها. صدر لي العام 2019 كتابان نقديان بالفرنسية، و«سيرة الوقت» بالعربية، فضلاً عن الطبعة الثانية من «رقص». وقد بدأت تحضر وتثير الاهتمام ضمن سياق التلقي هنا وهناك، لكن الفايروس التاجي قطع التواصلات والتفاعلات على مستوى الكوكب الشقي كله. أما الجديد في مسيرتي فهو نص سردي توثيقي بعنوان «مكتب على السين» بدأت في كتابته فور وصولي إلى باريس مديراً عاماً للمعهد، ويحكي تجربة عملي خلال ثلاث سنوات في بيتنا الجميل النبيل في قلب الحي اللاتيني. ومع أني فرغت تماماً من كتابته ومراجعته إلا أنني لن أنشره إلا بعد عودة الحياة إلى عاديتها. كذلك ترجمت خلال فترة الحجر الأول كتاباً للرئيس جاك لانغ بعنوان «اللغة العربية كنز فرنسا». وقد ترجمته قناعة بأهميته، ولكن أيضاً لأن مواجهة تعب الجسد وقلق الروح بعمل مفيد خلاق هو مما تعودت عليه منذ عقود، وهنا يصح القول بأن «البرابرة قد يمثلون لنا نوعاً من الحل».• إلامَ تعزو اندهاش قارئك؟•• لكل قارئ مفترض هويته وهواه الشخصي، وهو وحده المؤهل للحكم، وأعني ذلك القارئ الذي قد يندهش أمام لغة يجدها مشعة أو تجربة يحسبها جديدة عليه، أو أمام مواقف إنسانية جريئة صادمة لم يكن يتوقع مثلها من الكاتب، وخصوصاً من أكاديمي محترف وشيخ وقور مثلي.• ما المسافة بين عفوية القروي ومهارة الفرانكفوني؟•• لا كتابة أدبية تستحق النعت إلا وتجمع بين التجربة العفوية الحميمة والدراية الواعية بشروط الكتابة وأدواتها. والقول ينطبق حتماً على كل الفنون بما هي إبداع متجدد يتطلب مع الحميمية والصدق الحرفية العالية لحظة التحقق الفعلي.• لماذا استغوتك السيرة، من سيرة الوقت إلى سِيَر المُدن؟•• ليس في الأمر غواية، بل هي محبة تحولت إلى خيار مفضل. ففي مرحلة متقدمة من العمر قد يتذكر الشخص أنه نسي ذاته أو أجّل الحوار معها، وعندها يظل يحاول تدارك الأمر ومقاومة الزمن ولو بنص يحسبه ما يتبقى له بعد رحيله.• تطلع البعض لكتاب بالفرنسية ليتاح التعبير دون استرابة ثم تتم الترجمة؟•• انقطعتُ عن الكتابة بالفرنسية ربع قرن - وليس عن التحدث والقراءة بها حتماً- ولهذا لم أراهن قط على التعبير من خلالها عن تجارب حميمة، فلا أقدر من اللغة الأم على ترجمتها.• ما مدى رضاك عن القراءة النقدية لمشروعك الكتابي؟•• أرجو أن تكون مقارباتي النقدية قد أخذت حقها لدى القارئ المختص، وسواء مما جمع في كتب أو ما ظل منشوراً في مجلات متخصصة أو في كتب وموسوعات جماعية. فيما يخص كتابة الذات فلم أكن لأتابع مؤشرات تلقيها إلا في النادر، وحينما أطل من حين لحين على ما كتبه أصدقاء وزملاء وباحثون آخرون لا تربطني بهم أي علاقة مباشرة، أشعر بنوع من الرضا الذي لا يبيح لي الانزلاق إلى الغرور بقدر ما يدفعني إلى مزيد الحذر والجهد كي أظل عند حسن ظن الكتابة ذاتها.< Previous PageNext Page >
مشاركة :