يزور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بكين للمشاركة في ذكرى 70 عاماً على انتصار الحلفاء على اليابان ونهاية الحرب العالمية الثانية. ويسعى بوتين الى استثمار زيارته الرابعة والعشرين إلى الصين، لتعزيز العلاقات الاقتصادية والسياسية بين البلدين. لكن ثمة عقبات تحول دون ذلك أكثر من أي وقت مضى. ولن يطول الأمر قبل أن تبلغ روسيا ترددات اهتزاز الاقتصاد وتباطؤ النمو الصينيين. ووفق الإحصاءات الرسمية، تراجع معدل النمو الصيني من 7.7 في المئة في الربع الأول في 2013، إلى 7 في المئة في الربع الثاني من 2015. لكن الأبحاث التي ترصد معدلات استهلاك الكهرباء، تقدّر أن النمو انخفض إلى 4.5 - 5 في المئة. وإلى ضعف النمو الصيني، اندلعت أزمة انهيار سوق الأسهم، فتراجعت أسعار السلع العالمية. وتأثرت روسيا بالغ التأثر بهذا التراجع. ولم تكن الصين فحسب لاعباً رئيسياً في تحديد الأسعار، لكنها كذلك المستورد الأكبر للمواد الخام في العالم. وسعت السلطات الروسية إلى التربع في صدارة الدول المصدرة للمواد الخام الى الصين. وفي 2007، أعلن بوتين أنّ بلاده ستمدّ الصين في 2025 بحوالى 35 في المئة من مجمل صادرات النفط، وحوالى 25 في المئة من مجمل صادرات الغاز (في 2014، بلغت الصادرات النفطية 14.8 في المئة و0.05 في المئة من صادرات الغاز). وأملت موسكو بأن تتحول بكين إلى الشريك التجاري الأبرز في روسيا، وأن يتجاوز حجم التبادل التجاري معها نظيره مع الاتحاد الأوروبي في 2030. اليوم هذه الأحلام تبددت، ولا يدري أحد مصير خط «سيلا سيبيري» [قوة سيبيريا]، وما إذا كان سيبصر النور. وقد تنخفض صادرات روسيا من النفط والفحم وغيرهما من المواد، في وقت تميل الصين الى استهلاك المواد الخام المستخرجة من احتياطات في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. وساهمت بكين في تطوير هذه الاحتياطات في السنوات الأخيرة، من طريق استثمارات قدرها عشرات البلايين من الدولارات في الخارج. وتولي موسكو أولوية استراتيجية للتعاون مع دول آسيا الوسطى. وطوال أعوام، رأى الكرملين أن في الإمكان شق «طريق الحرير الجديد» الذي يربط الصين بأوروبا عبر الطرق القارية في سيبيريا وكازاخستان ووسط روسيا. لكن هذه الخطط بقيت حبراً على ورق، ولم تحرك روسيا ساكناً لمد شبكات السكك الحديد والطرق السريعة بين حدودها الجنوبية والغربية. وأمضى رئيس السكك الحديد الروسية، فلاديمير ياكونين - وهو أقيل من منصبه أخيراً - وقته في الترويج للعقيدة الأرثوذكسية والتفكير في القضايا الجغرافية - السياسية، عوض إدارة شركة السكك الحديد. لذا، غيرت الصين مسار طريق الحرير وانتخبت المسار الجنوبي لمشروعها، وأطلقت عليه تسمية «طريق الحرير البحري» (وزادت جاذبية هذا الطريق، إثر تدشين المصريين خط قناة السويس الثاني). وتبحث بكين في إمكان مرور طريق الحرير في إيران، وتسعى الى توجيه طريق الحرير القاري إلى الضفة الجنوبية لبحر قزوين. واليوم، تفوق الاستثمارات الصينية المباشرة في كازاخستان نظيرتها في روسيا، وتبلغ أكثر من 10.5 أضعاف استثماراتها في روسيا. ولا شك في أن موسكو خسرت في «لعبة الترانزيت الكبرى» التي عوّل عليها بوتين. وكل مشاريع الخطوط الأخرى، مثل تلك المرتبطة بممر بحر الشمال، انهارت كذلك. ففي 2014، انخفضت حركة نقل الترانزيت في أقصى الشمال 76 في المئة، وحجمها اليوم أقل 4000 مرة من حجم العبور عبر قناة السويس. أما التعاون في المجالات الدفاعية والتكنولوجيا العسكرية مع الصين فمتعذّر. فطوال أعوام، قلّصت الصين معدلات استيراد العتاد الدفاعي والعسكري من روسيا، وطورت قدراتها الصناعية العسكرية الخاصة. وغالبا ما لجأت في عمليات التطوير الى التقنيات الروسية من دون رخصة أو إذن. واعتبرت روسيا الصين أقرب حلفائها العسكريين، وأملت بتشكيل حلف متين مناهض للولايات المتحدة. لكن الأزمة الاقتصادية الحالية التي ضربت الصين، تثبت أن بكين غير قادرة على الانتقال من نموذج التصدير إلى نموذج آخر مشرع أكثر على السوق المحلية. لذا، جليّ أن الصين ستتجنب المواجهات المحتملة مع الغرب، وستحاول تعزيز التعاون الاقتصادي في المحيط الهادئ. واليوم، يبدو تعويل القيادة الروسية على دعم الصين لسياستها الخارجية المتهورة وغير المسؤولة، ضعيف الصلة بالواقع. ولم تعد تقوم قائمة لمشروع «استدارة روسيا نحو الشرق». والعلاقات الاقتصادية والسياسية بين روسيا والصين غير نموذجية. ويبدو مشروع رفع حجم التجارة الثنائية إلى 100 بليون دولار الذي أعلن عنه في 2011، غير واقعي، وهو بلغ ذروته في 2013 (88.8 بليون دولار)، وانخفض إلى 88.3 بليون دولار في 2014، وبلغ 30.6 بليون دولار في النصف الأول من 2015. وبلغت نسبة تقلّصه 28.7 في المئة. وخابت الآمال الروسية في الاستثمارات الصينية المتوقعة، والتي كان يعول بوتين عليها بعد فرض العقوبات المالية الغربية ضد روسيا في تموز (يوليو) 2014، إذ اقتصرت الاستثمارات الصينية في الاقتصاد الروسي على 1.6 بليون دولار في 2014، في وقت بلغت قيمة رؤوس الأموال الهاربة من روسيا 151.5 بليون دولار. ويرجح أن تتبادل بكين وموسكو الالتزامات والوعود، وستدور خطابات بوتين والرئيس الصيني، شي جينبينغ، على «التعاون الأقوى من أي وقت مضى». لكن لا شك في أن المحور «الروسي – الصيني» فقد سنده الاقتصادي. ولا يُخفى أن بوتين لن يعترف بأن رهاناته على استدارة روسيا نحو الشرق ومشروع توطيد التعاون بين روسيا والصين، لم تكن في محلّها ولم ترتجَ منها فائدة. لكن مع توالي فصول الأزمات الاقتصادية في كل من الصين وروسيا، تتعاظم الخلافات في أوساط النخب السياسية والاقتصادية الروسية على هذه السياسة البوتينية أكثر فأكثر. ولا أحد يعرف رد بوتين، في وقت لم تعد ثمة قوة عظمى يسعه التقرب منها وتوطيد العلاقات بها. وفي مطلع الألفية الثانية، كان بوتين الصديق الأثير للولايات المتحدة، وفي وقت لاحق ربطته «علاقة خاصة» بفرنسا وألمانيا، ثم التفت إلى الصين وقطع العلاقات مع الغرب. ولكن، إلى أين سيلجأ اليوم؟ هذه المسألة هي الأكثر غموضاً في السياسة الخارجية الروسية بعد تبدّد أحلام الأنابيب والتحالف الروسي - الصيني العظيم.
مشاركة :