في عام 2018 طرح العالم والبروفيسور والكاتب آلات لايتمان كتابًا ذا عنوان لافت «في مديح إضاعة الوقت»، وعلى الرغم من غرابة العنوان إلا أن القضية التي يطرحها مطروقة؛ حيث تناولها قوم آخرون من قبله. وكتاب كارل أونريه «في مديح البطء»، وكتاب برتراند راسل «في مديح الكسل»، بالإضافة إلى رواية «البطء» لميلان كونديرا، عُمدة في هذا الباب، سوى أن البروفيسور لايتمان يخطو خطوة أخرى إلى الإلمام؛ إذ ينادي بما نسميه «الإهدار المتعمد للوقت»، وسوف نبسط القول في هذه المسألة في حينه.ويحذر البروفيسور لايتمان من أن عدم مراعاة توصياته سيؤدي إلى تدمير جماعي “لأنفسنا الداخلية وقدراتنا الإبداعية”. وفي ربط قد يبدو غريبًا يقرن مؤلف كتاب «في مديح إضاعة الوقت» بين الإبداع و«الإهدار المتعمد للوقت»؛ إذ إن الرجل يدافع، وتلك هي القضية الأساسية في الكتاب، على ما يبدو، حول توجيه أوقات الفراغ إلى مناحٍ ذات نفع وفائدة. اقرأ أيضًا: فوائد تنظيم الوقت.. هل تعرف طريق النجاح؟في مديح إضاعة الوقت أو التجول الحر للعقول في فصله عن الإبداع، أكد البروفيسور لايتمان بدلًا من ذلك قيمة “السماح للعقل بالتجول والدوران”. وكشفت استقصاءاته عن أن الاكتشافات العلمية العظيمة للقرن العشرين تحققت غالبًا بعد “التعثر”، وحين تصور الناس أن تلك المشكلة غير قابلة للحل. ويؤكد أن الحل جاء بعد العثور على بيئة مريحة يمكن لعقول العلماء أن “تتجول فيها وتستكشف وتبتكر بحرية مطلقة”. وكان غوستاف مالر؛ حسبما يسرد مؤلف كتاب «في مديح إضاعة الوقت»، يمشي بشكل روتيني لمدة ثلاث أو أربع ساعات بعد الغداء، ويتوقف لتدوين الأفكار في دفتر ملاحظاته. وتوصل Carl Jung _حسب مؤلف كتاب «في مديح إضاعة الوقت»_ إلى أكثر أفكاره وكتابته إبداعًا عندما زار منزله الريفي، وفي سيرته الذاتية عام 1949م وصف ألبرت أينشتاين كيف تضمن تفكيره ترك عقله يتجول في العديد من الاحتمالات وإقامة روابط بين المفاهيم التي لم تكن مترابطة سابقًا. اقرأ أيضًا: الالتزام بوقت العمل.. كيف تحارب اللص الروتيني للزمن؟التقنية والقضاء على وقت الفراغ من بين الانعكاسات الغريبة أيضًا أن التكنولوجيا _ولا ننسَ أن مؤلف كتاب «في مديح إضاعة الوقت» شديد الوطأة على التقنية وكل الوسائط المرقمنة في حياتنا المعاصرة_ وعكس ما هو متوقع تمامًا، قضت على وقت الفراغ، وأتت عليه من القواعد، على الرغم أن البعض توقع في الثمانينيات أن تمنحنا الروبوتات وأجهزة الكمبيوتر مزيدًا من أوقات الفراغ التي لا نعرف ماذا سنفعل بها. لكن الواقع عكس ذلك، فحتى لو كانت التكنولوجيا سرعت من دورة الإنتاج فإنها ألهبت جشع الرأسماليين لكي تدور الآلات على مدار الأربع وعشرين ساعة، كما أن التقنية _وكما كان يحلل ثيودور أدورنو في فصله المعنون بـ “صناعة الثقافة” ضمن كتاب جدل التنوير_ احتلت وقت الفراغ. فحتى في الوقت الذي لا نعمل ترانا مستبعدين من قِبل هواتفنا المحمولة ووسائل التواصل الاجتماعي، إلى درجة يمكن معها التجاسر على القول إن السأم الذي كان يخشاه شوبنهاور وشارل بودلير وجد تعبيره الأمثل في تصفح وسائل التواصل الاجتماعي، لم تقض التقنية على الملل، وإنما وجدت له مصرفًا جديدًا؛ أي وجهته ناحيتها، وهي (التكنولوجيا) المستفيد الأكبر من الملل؛ فلا شيء أمامك إذا أصابتك نوبة ملل ما إلا تصفح فيسبوك أو إنستجرام، ووقتها سترى كم يتعاظم مللك ويتآكل وقتك! يمكن المغامرة أيضًا بالقول إن التكنولوجيا ساهمت، صوريًا، في زيادة أوقات الفراغ _هذه الأوقات محتلة أيضًا بالوسائط التكنولجية كما قلنا أعلاه_ ولكنها أسهمت في رفع معدلات الإنتاج؛ فأولًا من السهل الآن التسوق وأنت في غرفة نومك، كما أن الأجر المرتفع بعض الشيء الذي يمكن أن تحصل عليه من خلال العمل الإضافي على آلات تكنولوجية سوف يذهب بشكل مباشر أو غير مباشر إلى المتاجر؛ حيث هناك ستهدر أموالك على سلع استهلاكية لا جدوى منها ولا طائل. يعاني العصر الحديث من نوعين مختلفين من الحمى: حمى العمل وحمة الاستهلاك. يقول كارل أونريه: «صار الملايين من الناس يذهبون إلى العمل حتى عندما يكونون متعبين جدًا، أو مرضى ليسوا في كامل فعاليتهم، وتزايد بالملايين عدد من يمتنعون عن أخذ إجازاتهم كاملة» (في مديح البطء، كارل أونريه، ص 217). ولا يجب أن نغادر هذا المقام من دون التشديد على القضية الأساسية التي يطرحها مؤلف كتاب «في مديح إضاعة الوقت»؛ وهي أن إهدار الوقت ليس هدفًا في حد ذاته، وإنما يجب أن يؤدي التجوال الحر للعقل إلى المزيد من الإبداع، والعثور على الأفكار الجديدة، خاصة أن الجميع في هذا العصر يعدو من دون أن يصل. اقرأ أيضًا: الأهداف الشخصية وتنظيم الوقت اختيار التوقيت المناسب.. كيف تصل إلى هدفك بذكاء؟ نظم غدك اليوم.. طرق الحفاظ على تركيزك وأدائك
مشاركة :