انتهت التوافقات الغربية بين أوروبا وكندا والولايات المتحدة، على توزيع حصص استقبال اللاجئين السوريين الفارّين من جحيم حرب تأتي على الأخضر واليابس، في بلد كان يعتبر إلى سنوات قليلة إحدى الوجهات السياحية التي تستقبل الملايين من الزائرين. وبحسب الأرقام التي تم التوافق عليها، فإنه سيكون على دول الاتحاد وأمريكا وكندا، اقتسام خمسة ملايين لاجئ سوري وهو رقم يذكّرنا بعملية التهجير للفلسطينيين بعد ما عرف بالنكبة. نعم في منتصف القرن العشرين وقع تهجير خمسة ملايين فلسطيني في تغريبة لم يستطع العودة منها إلا القليل، ممن أسعفتهم السنّ والحظ أيضاً في أن يعودوا لجزء من أرضهم. وبعد نحو ستة عقود، يقع استنساخ التغريبة الفلسطينية بأخرى جديدة في سوريا. خمسة ملايين مهجّر، ونحو 300 ألف قتيل في الحرب الدائرة منذ سنة 2011، وعشرات الآلاف من المفقودين على الأرض، وربما مثلهم ممّن ابتلعهم المتوسط ولم تعرف لهم هويّة. النّكبة السورية لا تختلف عمّا حدث في فلسطين منذ عقود. والنّتائج تكاد تكون متشابهة. تهجير وإفراغ للأرض من شعبها، ثم يبدأ الحديث عن تقسيم الأرض بعد أن تستوطن في سوريا أجناس جديدة ستمارس كل أنواع التخريب والتدمير في المنطقة العربية أسوة بأسلافها الصهاينة. قد تكون صورة الطفل إيلان موجعة ومؤلمة، وربما أثارت لغطاً كثيراً وحركت ضمائر العالم من أجل المساهمة في حل القضية السورية من جانبها الإنساني على الأقل، غير أن الآلاف من أطفال سوريا قضوا في الحرب الدائرة رحاها في بلدهم. وهذا يعني أن الغاية من هذه الحرب ليست إسقاط نظام فقط، بل تدمير أجيال بأكملها. إنّ الحروب تُعرف بنتائجها، والنتائج الظاهرة إلى حد الآن هي أنّ سوريا يقع تفريغها من شعبها، بالتهجير والتقتيل، والمؤكّد أن هناك من هو مستفيد، وسيظهر في اللحظة التي سيبلغ فيها الملف السوري نقطة اللا عودة. عندما طُرد الملايين من فلسطين، واستوطن الصهاينة أرضهم، خلدت الأعمال الأدبية والفنية بكل أشكالها مأساة التغريبة الفلسطينية، لكن كل تلك الأعمال لم تنجح في إعادة فلسطيني واحد إلى أرضه. اليوم يتكرر المشهد ذاته، وسائل إعلام تتناقل صورة إيلان وفنانون ينحتون، وشعراء يكتبون قصائد ومرثيات في المأساة السورية، لكن هل ستعيد كل هذه الأعمال سوريّاً واحداً إلى أرضه؟ وهل ستعيد المشاعر الفياضة سوريا إلى السوريين؟ الذين يرحلون في هذه التغريبة السورية لن يعودوا مستقبلاً إلى دمشق، إن بقيت تحمل الاسم. الملايين الخمسة الذين سيقع توطينهم في الدول الغربية لن يعودوا ليبنوا بلدهم. لأن من سبقهم في الحرب الأهلية اللبنانية، أو من سبقهم في حروب العراق، لم يعودوا وهم لا يفكرون في هذا أبداً. لقد اندمجوا في مجتمعاتهم، وأنجبوا أجيالاً جديدة لا تعرف شيئاً عن الوطن الأم، ولا تعرف شيئاً عن التاريخ أو الحضارة العربية الإسلامية. الأمر ذاته سيحدث للسوريين. لأنّ هؤلاء الهاربين من الموت سيصنعون الحياة في بلد غير بلدهم الأصلي، وسيبدعون حين تفتح أمامهم أبواب الإبداع. للتذكير فقط، يمكننا القول إن والد مؤسس مؤسسة آبل العملاقة هو من أصول سورية. ما يخيف في هذه التغريبة ليس العدد الذي وقع إقرار اقتسامه بين الدول الغربية. فخمسة ملايين لاجئ ليس عدداً هيّناً، ولكنه على كل حال يمثل جزءاً مهما من شعب كان يعيش آمناً في أرضه. الذي يخيف هو الأعداد المتزايدة من الراغبين في اللجوء والهروب من وطنهم. فالأرقام الأخيرة التي تنشرها المنظمات المهتمة باللجوء والهجرة، تثبت أن الأعداد تتزايد بوتيرة أسرع مما كانت عليه في السنوات والأشهر الماضية. فمنذ بداية شهر يناير/كانون الثاني من سنة 2015، تم حصر 380 ألف لاجئ، نصفهم غادر وطنه في شهري يوليو/تموز وأغسطس/آب. وهذا العدد المسجل في شهرين فقط يعادل تقريباً العدد المسجل في كامل سنة 2014. الأعداد الضخمة لهؤلاء اللاجئين لا يدرج ضمنها أكثر من 7 ملايين نازح داخل سوريا، ونحو مليونين ونصف المليون هربوا إلى الدول العربية. هذه الأرقام تقدّم مؤشرات عدة يمكن إيجازها في النقاط التالية: - السوريون يئسوا من أي حلّ سياسي في بلدهم، وازداد الاعتقاد لديهم أنْ لا حلّ في الأفق القريب، وأنْ لا منطقة آمنة في سوريا. لذلك اختاروا حلّ اللجوء، واللا عودة. - من يركب البحر ويدفع بأبنائه في قوارب الموت ويدفع آلاف الدولارات للمهربين، يدرك أن البحر صار أكثر أمناً من الأرض التي ولد عليها، مثلما تقول الشاعرة الصومالية أرسان شير: عليكم أن تدركوا بأنه ما من أحد يضع طفله في قارب، ما لم يكن الماء أكثر أماناً له من اليابس. - اللاعبون الرئيسيون في لعبة تدمير سوريا وأدواتهم التنفيذية التي تحمل أسماء متعددة، لهم هدف واضح وهو إحداث معطيات ديموغرافية جديدة في سوريا، ستكون أساساً لعملية تقسيم البلد، وقبل تحقيق هذا الهدف لن تتوقف الحرب، وصورة الطفل إيلان لن تكون سوى صورة من مسلسل طويل من المآسي. - الدول الغربية تبارزت في استقبال اللاجئين بعد أن أوصدت كل منافذها البرية والبحرية، وبعد أن ضغطت وسائل الإعلام والمنظمات الإنسانية عليها، لكن هل ستقدر على استيعاب الأعداد الهائلة ممن ينوون اللجوء إليها في ظل تواصل الأزمة السورية، وغياب أي أمل في حل سياسي قريب؟ إن جملة هذه المعطيات تثبت أن القضية السورية قد تم تدويلها منذ بدء الصراع، لتحقيق غايات بعيدة كل البعد عن طموحات الشعب السوري. إنها لعبة قذرة شبيهة بما حدث لفلسطين. وهي لعبة، الخاسر فيها دائما هو الإنسان العربي، الذي هو أيضاً جزء أو أداة تنفيذية لهذه اللعبة القذرة. ستستقرّ الوجوه المصفرّة، في بلدانها الجديدة، وستجري الحياة في عروقها مجدداً، لتعمل وتسهم في الإنتاج والتقدّم، ولن يبقى لها من ذكرى نحو ذاك الشرق البغيض سوى أوراق بالية، من جواز سفر نجا من ملح البحر. kamelbelhedi@yahoo.fr
مشاركة :