“أهل مكة” ليسوا دائما أدرى بشعابها

  • 2/26/2021
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

دوّن التاريخ منذ القدم أمثال الشعوب التي يضربونها ليعبروا عن مشاعرهم ويجسدوا أفكارهم وثقافتهم ،وليرسموا صورة حية لواقعهم المعاصر في الأحداث والمواقف. وإن الأمثال لا تخلو من جانب الحكمة في مضامينها ومن جانب البلاغة والفصاحة في مفرداتها ، ولعل هذه الأمور هي ما تحدد سعة انتشارها وكثرة استخدامها جيلا بعد جيل .. وقد يصح أن نميز الأمثال عن الحكم وسائر الأشكال التعبيرية في أن الأمثال غالبا ما تكون عبارة عن حقيقة ناتجة عن تجربة .. بينما تتجه الحكمة إلى الوعظ والتنبيه قبل معايشة التجربة. وقد قالوا قديما : أهل مكة أدرى بشعابها .. قد يكون سبب إطلاق هذا المثل راجعا إلى طبيعة مكة المكرمة المعمارية والتضارسية ، والتي غالبا ما تشكل صعوبة لدى الوافدين من غير أهلها في معرفة الشعاب والوديان والأزقة والطرق التي تشكل جغرافيتها ، وعليه أصبح من مصاديقهم انفراد أهلها بمعرفة الشعاب التي تُعرَف في اللغة بأنها التصدعات والتشققات الصخرية التي تكون في الجبال .. ولعل بإمكان الجميع استنتاج المعنى المجازي للمثل والذي يشير إلى أن صاحب أو أصحاب الشأن أو القضية أو الموضوع أو أيا ما يكن الأمر هو أو هم أدرى ( أعرف ، أعلم ، أفهم .. ) بذلك الأمر من أي أجنبي عنه ،لم يعايشه ولم يتعمق فيه ولم يتأثر به بشكل مباشر أو غير مباشر.. إن هذا يبدو أمرا منطقيا ، صائب الفكرة وقوي الاستنتاج .. فصاحب الشأن هو الأقدر على الدراية بمخابئ أموره وطرق وصوله ،لما جمعه من معرفة تراكمية وتجارب حياتية .. أليس كذلك ؟! أجل .. هكذا يبدو عليه الأمر .. إلا أن هناك استداراكان: الوقفة الأولى : ليس من المسلمات أو من الشرائط التسليم بصحة هذا المثل على الدوام وعليه فالوقفة الثانية : لا يحق لصاحب الشأن أن يجنب مشورة الأجنبي عن أمره بهذه الحجة ( أي احتجاجه بالمثل ) . بعبارة أخرى.. لو كان شخص .. مجتمع .. مدينة .. وحتى دولة .. لديها أمر بحاجة لمشورة أو حل أو فكرة أو ابتكار .. فحجة ” أهل مكة أدرى بشعابها ”  وما يتضمنها المثل من معنى مجازي ، هي حجة ركيكة إذا لم يتم إثبات دراية ” أهل مكة بشعابها ” أكثر ممن هم ” ليسوا من أهل مكة ” دعوني أطوف بكم معي في جولة خاطفة عبر الزمن ، لعل من خلالهاأجد ما يسعفني وأستند إلى ما يعزز فكرتي .. صوامع الصديق نبينا يوسف عليه السلام ولد في بادية الكنعانين ، حيث لم يكونوا الأعرفبعلم الزراعة والفلاحة ، وحين فسر رؤية ملك طِيبة المصري لضرورة حفظ الغلال من السنابل والحبوب،استعدادا لسنوات القحط ،السنوات العجاف ، صدر أمر الملك باتباع تأويل الرؤية التي صرح بها النبي يوسف عليه السلام .. هذا بما يخص الحفظ والتخزين .. ولكن .. من أشار إلى المصريين ببناء الصوامع التي تحفظ الغلال بطريقتها وكيفيتها الهندسية ؟! إنه يوسف ذاته الذي جاء من البادية وترعرع في قصر زليخة وأمضى سنينا من شبابه بسجن العزيز !! فلماذا لم يكن ” أهل طِيبة أدرى بحفظ غلالها ” ؟! فليس بالإمكان أن يجاور النيل قومٌ إلا وهم حفيون بأمور الزراعة والمحاصيل !! إذن ..دراية يوسف عليه السلام جعلته أدرى بحفظ الغلال .. إلا أن ثمة معترض سيقول: دراية يوسف من وحي السماء ، ولا مجال لدراية البشر أن تجابه دراية السماء !! وإن كانت لدى المصريين فرصة السبق والمبادرة أو لا أقل .. عدم اعتراض قسم منهم على الفكرة .. وتردد البعض الآخر والتشكيك بالفكرة !! إلا أني سأسلم بقوة هذا الاعتراض وسأواصل جولتي إلى محطة أخرى .. العالم الإدريسي الذي ولد في مدينة سبتة المغربية ، برع في علم الجغرافيا براعة تكفيه أن يحوز على ثقة ملك صقلية روجر الثاني الذي كلفه برسم حدود مملكته .. الإدريسي ذلك العربي الغريب ، اختير من بين كل علماء الرومان لينجز المهمة الشاقة التي كلفته قرابة ال 18 عاما من حياته .. أليس من المفترض أن ” صقلية أدرى بحدودها ”  ؟! أم أن دراية الإدريسي جعلته أدرى؟! قناة السويس المضائق والقنوات المائية غالبا ما تكون مصدرا اقتصاديا مثريا جدا للدول التي تجاورها .. هناك في مصر وعلى سواحل بور سعيد المطلة على البحر الأبيض المتوسط نقطة البداية لقناة السويس التي تربط البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط .. شق هذه القناة كان في البداية فكرة لدى قائد الحملة الفرنسية نابوليون بونابارت عام 1798 ميلادية إلا أنه لم ينجح في تنفيذ فكرته. وفي عام 1869 م نجح رائد الأعمال الفرنسي فرديناند دي لاسبس بتنفيذ المشروع في عهد الحاكم العثماني محمد سعيد باشا. أنا لن أحاسب المصريين الذين لم يتعلموا من المصريين القدامى الذين شقوا قنوات بين نهر النيل والبحر الأحمر ،ولكن أين المصريون عن تنفيذ الفكرة بأنفسهم؟ ما بين محاولة نابليون ومشروع لسبس، هناك ستين سنة كافية لأخذ زمام المبادرة .. ثم كيف استطاع الفرنسي تنفيذ فكرته لولا أن ثمة مليون عامل مصري حفر القناة ؟! أليس ” أهل الكنانة أدرى بقنواتها ” ؟ أم أن الفرنسيين كانوا هم الأدرى ؟! بئر جبل دخان كانت البحرين رائدة الدول الخليجية في استخراج اللؤلؤ وكان لها سبق في أمور كثيرة في المشهد الحضاري والثقافي والنهضوي .. أبناؤها النواخذة والغواصون ، كانوا يخاطرون بأرواحهم ويغيبون عن أهاليهم أسابيعا وشهورا للحصول على ما في بطون المحار من اللؤلؤ الثمين ،ولكن غوصهم في أعماق الخليج وتجاربهم ومغامراتهم لم تخولهم لمعرفة واكتشاف الكنز المدفون في قلب أراضيهم !! إنه الذهب الأسود ،وهو النفط أو ما يعرف بالبترول ، والذي تم اكتشافه في البحرين في اكتوبر 1931 م ببئر جبل دخان كأول اكتشاف للنفط في منطقة دول الخليج العربي. من الذي اكتشف النفط في البحرين؟ إنهم الأمريكان .. وتحديدا شركة ستاندرد أويل كومبني أوف كاليفونيا .. ولا أجدني مضطرا لسرد مقدار إسهام النفط في حضارة البحرين ونهضتها ، ولكن مجددا .. أليس ” أهل البحرين أدرى بنفطها ؟ ” أم أن للأمريكان لهم رأي آخر ؟! مشروع الري والصرف الصحي الأحساء ، واحتي الجميلة ومحبوبتي الرائعة .. حباها الله بخيرات الطبيعة الكثيرة ، وقد كان أبرزها عيون الماء التي تروي مزارعها الخضراء .. إلا أن ثمة مشكلة فطنت لها الدولة تكمن في ترسب الأملاح نتيجة اختلاط مياه الري بمياه الصرف الزراعي .. ومن هنا انبثقت فكرة مشروع الري والصرف ، حتى يكون للماء مساران منعزلان .. من قام بعمل الدراسة ؟ الشركة الاستشارية السويسرية واكوتي !! من نفذ المشروع ؟ الشركة الألمانية فيليب هولزمان !! اتركوا علامات التعجب جانبا فأنا لست هنا لأتهكم أو أعترض أو حتى أستغرب .. لكني هنا لأقول : ليس ” أهل الأحساء أدرى بريها وصرفها ” إنما كان أمر الدراية بيد السويسريين والألمان. انتهت الجولة .. وإن كانت المحطات لم ولن تنتهي .. وعدت أبعثر أوراقكم لأقول: إن الدراية المقصودةهي العلم والمعرفة .. ولكن ليس في المجمل العام إنما وتحديدا تكون دراية الأجنبي أكبر وأكثر من دراية أهل المكان في الموضوع ذاته .. في القضية ذاتها .. في الفكرة نفسها .. وحتى أقرب الفكرة .. دعونا نعود لواقعة الخندق .. ونتساءل: من الذي أشار على الحبيب المصطفى أن يحفر خندقا يحمي جيشه وكتيبته ؟ الجواب: سلمان الفارسي .. ليس عربيا وليس مدنيا وليس حجازيا .. والأهم من ذلك . . جزما وقطعا ليس أعلم من الرسول الكريم .. إنما كان سلمان – رضي الله عنه – أدرى بفكرة الخندق من غيره .. وفي حين أن النبي العظيم لم يكن ليقول ” أهل يثرب أدرى بحماية أهلها ” استحسن الفكرة وأعطى الأمر بالحفر .. وقد كانت فكرة رائعة أسهمت في نصر جيش المسلمين. ولذلك أتساءل دوما : لماذا هذه الحدة من بعض المتزمتين أو المتعصبين أو حتى أيا كان من المتحاورين .. عندما يطرح أحد ما .. فكرة تطوير أو فكرة حل أو فكرة تحليل أو ما شابه لمن هم ليسوا في دائرته ( الاجتماعية ، الطائفية ، القبلية ، العرقية ، الفكرية ، الدينية .. إلخ ) يجد الاعتراض عليه بذريعة أن هناك من هو إجمالا أعلم وأعرف وأدرى وأن ” أهل مكة أدرى بشعابها” !! حتى قبل الإصغاء إلى حديثه أو المناقشة لفكرته !! ومن هنا جئت لأقول : أهل مكة ليسوا دائما أدرى بشعابها .. وحتى لا أترك ثغرة في الموضوع .. فلو أردنا إبعاد المعنى المجازي وأخذنا المعنى الحقيقي للمثل ، فإني على يقين أن قوقل ماب أدرى من أهل مكة بشعابها !!

مشاركة :