القوى الناعمة وصناعة الثقافة

  • 3/4/2021
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

الثقافة خاصية إنسانية فهي من صنع الإنسان وعنصر مهم في بنائه النفسي والشخصي والفكري، وحين يحافظ المجتمع على ثقافته فإنه يحافظ على الإنسان ذاته، على هويته ولغته وموروثه، حيث تكمن أهمية الثقافة في أنها ذاكرة النوع البشري، فهي مصدر مهم لمعرفة التاريخ وتطور الشعوب. كما تساعد الثقافة السائدة التي يعيش فيها الفرد على الشعور بالوحدة والفخر بالانتماء إلى ثقافة معينة، فهي تمنح الأفراد مجموعة من الأنماط السلوكية في تفاصيل حياتهم اليومية، وتتطور تلك الأنماط بتطور المجتمع، فهي متغيرة بشكل دائم وسريع. كما تمد الثقافة المجتمعات بالمعتقدات والقيم والأنظمة التي تتيح التعاون والتكيف بين أفرادها. وقد يبدو لنا هنا بعض الأسئلة سهلاً أو بدهياً مثل: ما هي الثقافة؟ كيف نكتسبها؟ من هو المثقف؟ هل هي عملية فردية أم جماعية؟ ولكن هذه الأسئلة ستأخذنا إلى تحليلات المفكرين وعلماء الاجتماع، ولكل منهم توجه يختلف بطريقة أو بأخرى عن الآخر. فالثقافة أمر أساسي للوجود الإنساني، واكتساب الثقافة عملية مستمرة وتراكمية، فقد يكتسبها الفرد في سن مبكرة من حياته ومن عدة مصادر كالآباء والمدرسة والمجتمع، فهي تنتقل بطريقة ديناميكية من جيل إلى آخر مع إضافة سمات ثقافية تتغير عبر الزمن. ويمكن اكتسابها أيضاً من خلال وعي الفرد، أو حتى بشكل غير واعٍ أحياناً، عن طريق ملاحظة تصرفات الآخرين والتفاعل المستمر معهم، كما أن العيش في مجتمعات ذات ثقافة مختلفة يساعد على دمج جزء من الثقافة الجديدة ضمن ثقافة الفرد نفسه. مفهوم متعدد الأوجه لقد أشارت مترجمة كتاب «الثقافة» -إصدار «دار المدى»- الكاتبة لطفية الدّليمي في مقدمتها إلى إشكالية مفردة الثقافة على صعيد المفهوم والتطبيقات، فمن الصعب اختصارها بتعريف بسيط ومباشر، فكلمة «الثقافة» Culture ذاتها واحدة من أصعب ثلاث كلمات في اللغة الإنجليزية مثلاً، فهي مفهوم متعدد الأوجه قد يترادف أحياناً ويتداخل مع مفردات أخرى مثل المدنيّة أو الحضارة، وهي في الأساس كلمة فرنسية قديمة ذات أصل يعود إلى اللغة اللاتينية وتعني رعاية الحقول أو قطعان الماشية، فلم تكن تعني أو تدل على حالة، بل إلى فعل زراعة الأرض وهذا كان هو المعنى الحقيقي لتلك الكلمة في تلك الحقبة. ودخلت مفردة «الثقافة» La Culture معجم الأكاديمية الفرنسية في القرن الثامن عشر، وبدأت بفرض نفسها مجازياً، وألحق بها المضاف وصار يقال «ثقافة الفنون» و«ثقافة الأدب» و«ثقافة العلوم» وغيرها، ومع نهاية القرن الثامن عشر تحررت كلمة «ثقافة» من أي مُضاف، وانتهى الأمر لاستخدامها المجرد للدلالة على تكوين وتربية العقل المثقف عن طريق التعليم. ولابد من أن نبحث أيضاً عن معنى مفردة الثقافة في اللغة العربية، حيث يعرّفها «المعجم الوسيط» بأنها: العلوم والمعارف والفنون التي يطلب فيها الحذق، ففي معلقة عنترة العبسي نقرأ البيت التالي: «جادت يداي له بعاجل طعنةٍ.. بمثقفٍ صدق الكعوب مقوّم»، حيث تشير مفردة المثقف إلى الرمح الذي كان أصلاً عود شجرة شُذّب وصُقل فصُيّر مستقيماً مثقفاً من الشوائب، ومن هذا المعنى أخذت مفردة «المثقف» دلالتها لتعني أن المثقّف هو الإنسان الذي تعلّم وقرأ وتابع وتهذب واستقام سلوكاً فصار مثقفاً. كتاب «الثقافة البدائية» لإدوارد تايلور كتاب «الثقافة البدائية» لإدوارد تايلور نقد للحاضر أم صورة للمستقبل؟ يتميّز مفهوم الثقافة بوجوده في أنواع مختلفة من العلوم، فهو يُستخدم في علم النفس والفلسفة والإنسانيات والاجتماع والاقتصاد، ولذا تختلف وتتنوع التعريفات بحسب العلم الذي يناقشه، ويتجلى أشهر تعريف للثقافة في كتاب إدوارد بيرنت تايلور «الثقافة البدائية»، حيث يصفها بأنها «مركب معقد مكون من الأدب والإيمان والفن والأخلاق والقانون والعادات والصناعة التي يكتسبها الإنسان بوصفه فرداً في مجتمع»، بينما يعرفها أستاذ الانثروبولوجيا الشهير نفسه في كتابه «مرآة للإنسان» -كما ورد في كتاب «غبش المرايا»- بأنها مجمل حياة الإنسان والإرث الاجتماعي الذي يكتسبه الأفراد من انخراطهم في جماعة معينة. هذا بينما يعرفها الكاتب تيري إيغلتن، وهو ناقد وفيلسوف ومنظر أدبي وباحث في حقل الدراسات الثقافية وسياسات الثقافة، على أنها تمثّل «نموذجاً للكيفية التي نعيش بها، أو شكلاً من هيكلة الذات أو تحقيق الذات أو ثمرة زمرة من أشكال الحياة المعيشية لجماعة كبرى من الناس. وقد تكون الثقافة نقداً للحاضر أو صورة للمستقبل...»، وهنا يشير إلى خاصيتها التنبؤية وقدرتها على تحديد أسلوب وسلوك الإنسان وما يمكن أن يقوم به في المستقبل. كما يعتبر إيغلتن الثقافة أرضية خصبة تنشأ وسطها السلطة، فقد تعني الثقافة تراكماً من العمل الفني والذهني، أو الصيرورة التي يحصل بها الارتقاء الروحاني والذهني، وهي أيضاً العادات والمعتقدات والممارسات الرمزية التي يوظفها الناس في الحياة أو الطريقة الكلية المعتمدة في الحياة، فقد تعني الشعر، أو الموسيقى أو صنف الطعام أو نوع الرياضة، وشكل الدين. الثقافة.. قوة وفي لقاء مع إيغلتن، أشار إلى أن الثقافة قد تكون أشد خطورة مما يدرك كثير من الناس لأنه من النادر التطرق إلى الجوانب السلبية للثقافة، والتاريخ يشهد على ممارسات الدول الاستعمارية التي تستهدف ثقافات الشعوب فتحارب التراث والقيم والمعتقدات، لأنها مكونات الثقافة الأساسية، كما تحارب اللغة التي تعد أهم ناقل للثقافة. ولقد باتت الثقافة وسيلة من وسائل القوة الناعمة في الحرب الباردة، ثم انقلبت سلاحاً من أسلحة العولمة التي تسعى لتوسيع نطاق الرأسماليات الرمزية المدعمة بمصنوعات مادية تعلي شأن الاقتصادات المتفوقة، وترسخ سطوتها على الساحة العالمية، وهنا تحولت الثقافة من كونها جزءاً من الحل إلى جزء من المشكلة، فالغرض من الثقافة وفق مفهومها الأصلي أن تكون عاملاً للتغيير، فمن المطلوب منها أن تكون وسيلة لقيادة التطور الاجتماعي نحو وضع إنساني عالمي أفضل. النخبة الثقافية لقد اعتبر ماثيو أرنولد في مقدمة كتاب «الأدب والدوجماطيقا»، أن الثقافة هي مزج الأحلام والرغبات الإنسانية بكدح المستعدين والقادرين على تحقيق هذه الأحلام وإشباع هذه الرغبات، ودافع بحماسه عن رأيه في كتابه الآخر «الثقافة أو الفوضوية»، مؤكداً أن الثقافة تسعى إلى التخلص من التفاوت وترنو لنشر المعرفة والفكر الأفضل في العالم، وهي باختصار «الشغف باللطف والحب والأهم هو أنها الشغل بالعمل على سيادتهما». وفي تجربة اجتماعية قادها عالم الاجتماع المرموق في جامعة أكسفورد جون جولدثورب، توصل ثلاثة عشر باحثاً إلى نتيجة مفادها أنه لم يعد في الإمكان تمييز النخبة الثقافية بسهولة كما كان عليه الحال في السابق، مقارنة مع غيرها في السلم الثقافي وفق السمات القديمة: مثل الحضور المنتظم لحفلات لأوبرا، أو الشعور بالحماسة لكل فن راق، والتأفف من كل ما هو شائع أو شعبي مثل أغاني البوب. وقد لا ينفي ذلك أيضاً وجود المثقفين بالمعنى المعتاد القديم بل إن النخب الثقافية ما زالت موجودة، ولكن تنوع استهلاكها الثقافي لمختلف الفنون الراقية والشعبية في ذات الوقت، تماماً كما يصف مصطلح ريتشارد بيترسون أفرادها بأنهم «آكلو كل شيء»! وذلك لأن استهلاكهم الثقافي الخاص يشمل الأوبرا وموسيقى البانك والفن الراقي والتلفزيون السائد، أي خليطاً استهلاكياً كما يقول ستيفن فراي، بحسب ما ورد في كتاب «الثقافة السائلة» للكاتب زيجمونت باومان عالم الاجتماع البولندي. والحديث عن الثقافة قد يطول ويتشعب، فهي في حالة مستمرة من الخلق والإبداع والانتشار، وقد يجتمع فيها التناقض بين ما هو تقليدي وما هو حديث، وفرق شاسع بين الخاص منها والعام، ومن الضروري التمييز بين الثقافة والعمل الثقافي الذي يتمثل في الإنتاج نفسه، سواء أكان ثقافياً أو فنياً ويشمل الأدب، والرسم والشعر والغناء والموسيقى وغيرها، وكل ذلك تتفرد به الأمم عن بعضها بعضاً. ومن أهم خصائص الثقافة أنها تحث على التعايش مع الثقافات الأخرى السائدة في جميع أنحاء العالم واحترام جميع الثقافات مطلب أساسي، مع ضرورة التعاطف بهدف نشر السلام والأمان في العالم. ولابد أن نستمر في حفاظنا على ثقافتنا الخاصة ونقلها إلى الأجيال القادمة، مع الحرص على عدم ابتعادهم عن ثقافتنا العربية والإسلامية التي امتدت حتى وصلت إلينا في يومنا الحاضر لضمان تقدم ونهضة أمتنا في سبيل إنشاء مجتمع أفضل وأكثر وعياً وعلماً ومعرفة.

مشاركة :