منذ فترة قريبة قررت هيئة الإذاعة البريطانية إغلاق نسختها العربية، بعد أن علقت عبارة «هنا لندن» في ذاكرة الثقافة العربية لأكثر من ثمانين عاما.هذا الإعلان صاحبه كثير من الأسى على منصات التواصل العربية، رغم أن هذا الإعلان كان منطقيا بسبب عزوف المجتمعات العربية عن منصات الإعلام التقليدي كالراديو، ويأتي هذا القرار البريطاني للتحول الإعلامي الرسمي تجاه منصات الإعلام الرقمية لمواكبة الإعلام الحديث ومؤثراته في عالم اليوم.عندما تأسست إذاعة لندن بصوتها العربي في 1938م، لم يكن العالم حينها على دراية بفنون ومؤثرات القوة الناعمة وصناعة الثقافة، ولكن الإنجليز كانوا على إيمان وثيق بقدرات الإعلام وآثاره على صناعة الثقافة، وتغيير مدركات البنية الذهنية للتأثير على الآخرين، ولا شك أن الراديو في ذلك الوقت كان مخترعا عظيما، ويعد نقلة نوعية في تاريخ التواصل الإعلامي العابر للقارات.يعد مفهوم القوة الناعمة حديثا نسبيا، وقد ابتكره البروفيسور جوزيف ناي في 1996م، بينما مصطلح صناعة الثقافة يعد قديما نوعا ما، وقد صاغه الفيلسوف الألماني تيودور أدورنو مع زميله ماكس هوركهايمر في 1944م، وقد أكدا حينها أن الثقافة المحلية أو الشعبية هي أشبه بمصنع ينتج سلعا ثقافية ممزوجة من أفلام وبرامج إذاعية ومجلات، وربما قد واتتهم الفكرة من الحضور الطاغي حينها للولايات المتحدة، وقدرتها على ترويج ثقافتها الفنية والثقافية بين مجتمعات العالم، فقد أصبح المنتج الثقافي الأمريكي من الأفلام والإعلام والمطاعم والمصارعة الحرة والفرق الموسيقية، هو الأبرز عالميا، وقد تمثلت حينها كأداة وقوة ناعمة هائلة للولايات المتحدة.في عالم اليوم، تعد كوريا الجنوبية الدولة الأولى في صناعة الثقافة باحترافية عالية، فقد نجحت في ترويج منتجاتها الثقافية وإبداعاتها المحلية، من أفلام سينمائية ومسلسلات وفرق غنائية استعراضية بصورة إبداعية ومبتكرة، فتعد فرقها الموسيقية «الكي بوب» من أكثر المنتجات الثقافية طلبا حول العالم، كما تمثل فرقتها الاستعراضية الشهيرة BTS رافدا مهما للاقتصاد الكوري في السنوات الأخيرة، وتأتي الأهمية الكبرى لمشاريع صناعة الثقافة كونها تسهم في رفع نسب التوظيف، كما تأتي رافدا اقتصاديا مهما في الناتج القومي، ويظل الإبداع والجودة شرطين لنجاح وتسويق الصناعة الثقافية، وهذا هو سر نجاح الكوريين.وأقيم معرض الكتاب الدولي في الرياض، وهو صناعة ثقافية بامتياز، فهو الأضخم تسويقيا على مستوى الشرق الأوسط، ويتمثل رافدا اقتصاديا وثقافيا إبداعيا، ولهذا لم يعد مفهوم الصناعة يقتصر على الفكرة التقليدية لصناعة السيارات أو الأثاث أو المنسوجات، فقد تطور المفهوم في الآونة الأخيرة ليشمل المنتجات الثقافية من الكتب والأفلام والمسرح والشعر والمسلسلات والفرق الموسيقية والمأكولات، وحيثما تتجلى الصناعة الثقافية تبرز معها القوة الناعمة كمتلازمة وجودية، صحيح أنهما يختلفان في المفهوم والأهداف، إلا أنهما يبدوان في المحصلة وجهين لعملة واحدة.[email protected]
مشاركة :