جاذبية اللغة وطقوسية الموت وأساطير الحلم وفانتازيا الواقع

  • 3/4/2021
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

شدّتني هذه المجموعة القصصية بما ضمته من نصوص تأخذ بزمام قارئها إلى عالم مشيّد بمداميك من لغة ذات مفردات مغناطيسية وتراكيب متونها فسيفساء دلالية متراصة تجتاح مساحة النص لتوغل في الحفر بين طباقته والكشف عن دفائنه ، أجواء الكآبة والموت والبؤس وشخصيات ملتقطة من الهامش مقتادة إلى المركز، وحشود من رؤى وأحلام وفنتازيا تحلّق في سماء اللحظة تلتقط نبضها بشفافية موغلة في سديم الداخل وأقبيته، متقرّية لتضاريس الخارج ونتوءاته ، سطحوهامرايا وأغوارها قضايا ، تبدأ بقصة اختار الكاتب عنوانها ليضعه على غلاف المجموعة التي تضم عشر قصص ، قدتمثّل فيها الكاتب هذه اللحظة الختامية في حياة بطله الذي يروي القصة على لسانه تقع على الحافة الحرجة بين الحياة والموت وتقفز من فوق الجسر إلى عالم مابعد النهاية ، ولم يكن هناك أي إمكانية لروايتها بغير هذه الطريقة ، ومع ذلك فإنها عابرة للمعقول أقرب إلى الفانتازيا ، تأتي على لسان من فارق الحياة ، كان يهجس بها لنفسه فليس ثمة غيره راوٍ ومرويّ له ، ومع هذا كانت الحكاية توحي بمنتهى الصدق ، تمثّلها الكاتب والتقطها بتفاصيلها الدقيقة ؛ ليس مجرد وصف ولا سرد ؛ بل نص يمثل خطاب الاحتضار في ذروة إكراهاته واشتداد مخانقه وأزماته ، ومع إاستغراقها في محدّداتها الزمنيّة والمكانيّة والذاتيّة والنفسيّة والجسديّة والاجتماعيّة فإنها انعتقت من أغلال تلك المحدّدات لتحلّق في فضاء إنساني متحرّر من كل القيود ، تلخيص وتقطير مصفّى لمنعطف فاصل بين الحياة والموت والحضور والغياب ، البداية والنهاية والمتن والهامش ، غير أنها على اختزالها لتلك المطلقات لملمت شعثها لتضع في عين العدسة اللاقطة تباريح العذاب الإنساني وصهرته في جملة من التفاصيل الصغيرة التي جمع فيها أشتات النبض الخفيّ في أغواره السحيقة. تعالقت في المشهد الاستهلاليّ عناصر الموجودات من الخلائق في اتّساق وانسجام : الطول والنحول السرير والقطران التهدّل والانحدار الحجر والقدم ، والجرذان والخشخشة والجنادب والصراصير، مفردات منتقاة تجمع أشتات الموقف في معجم يحشد حقول الحالة في بعدها المادي من عناصر بشرية وحشرات وقوارض وأشياء تلتئم في أنساق تركيبية : أحوال وصفات ومتضايفات وأدوات للوصل وظروف مكانية وزمانية وأنساق بلاغية مجازية : احتشاد لكل عناصر البؤس والشقاء والمرض : مكوّنات الأزمة بكل مقوّماتها حتى الاختناق وفي مقابل ذلك لمحات تضيء العتمة عبر فلاشات سريعة تومض ثم تنطقئ : رائحة البخور وقبلات الأم ولمسات الصديق وقطرات الدموع ، معزوفة النهاية في هذه السيمفونية الدلالية التي تحيط باللحظة وتحشرها في عين العدسة اللاقطة : الصوت والصورة واللون والحركة وخفقات تنبض بها الموجودات . نماذج ثلاثة من الشخصيات عدا شخصية السارد البطل : الأم والصديق (سعد) والأب ،هذه أضلاع المثلث الذي يحتضن البطل المريض الذي يعاني سكرات الموت وثلاث حركات أخرى تشغل المشهد كله : الحمّى بعذاباتها وأوجاعها والتنادي من أجل تغطية المريض (الغطاء) والبكاء ، ومثلث مكاني : المقهى والمدرسة والمسجد، وكلها تنزاح من الحضور إلى الغياب ،يقع في الماضي ويبقى في الحاضر في مكان المعاناة بما يضمه من مظاهر البؤس والشقاء ، وهذه الأمكنة تتعالق مع الأزمان الثلاثة فالماضي بكلّ ذكرياته الجميلة قد مضى وانقضى ، والحاضر زمن الوجع والعذاب ، والمستقبل زمن الغياب والموت ، ثمة ثلاثية أخرى تتمثّل في الشعر : أبيات محمود درويش وفي هذا الحشد من الألفاظ التي تمتد على مدى حقول من الدلالات الألم والشفقة والذكريات، ثم الأصوات : ثلاثيات دلالية في اتّساق يجسد لحظة الرحيل حيث يستقطب مغناطيسها الأزمنة والأمكنة والأصوات واللغات والهواجس إنها لحظة( الاحتضار) . وفي (رائحة القطران) تأتلف في المنظومة ذاتها (الموت والبؤس واستشراف النهاية) تتكون من عشرة مقاطع يتحوّل المتن السردي فيها إلى قصة تستعير من الأسطورة ملامحها وطقوسها ، تحضُر النار بحمولاتها الدلاليّة في البدء والمنتهى ويتحوّل القطران من كونه علامة إشارية إلى دالّ رمزي ذي بعد طقوسي له بعدان كونيان الصيف والشتاء والحر والقر ، ويدخل في علائق شبكيّة مع رموز وجدانية العشق والفرح وحسّية اللون والرائحة بدلالاتهما . يتحول القطران إلى معادل رمزي لحياة (هيازع ) بطل القصة ، فاختيار الاسم بتلاوينه الصوتية التي تبدوحروف تغلب عليها المخارج الحلقية دالة على الأزمة ، تتشكّل بنية القصة عبر هذه المقاطع في إيقاع متسارع متماوج ينموفي بنية دائرية تبدأ بالموت وتنتهي إليه عبر حركة لغوية رهيفة ، التقط من خلالها رد فعل المروي له (والده) وكانه مرآة انعكست عليها الهزة التي رافقت نهاية هيازع : سلسلة من الحركات المتسارعة المضطربة : “تراءت غيمة من الحزن تعبربين عينيه وحطّت فوق أحداقه اسراب من الذكريات .. تغضّن وجهه وتراخت أصابعه ووضع فنجان القهوة دون اكتراث على الأرض” تسعة أفعال ومتعلقاتها في سطرين في مشهد استهلالي يصور الصدمة التي أحدثها موت هيازع ، هذ الاستهلال صور حادثة الموت وكأنها زلزال ضرب الكون ، تبدّى ذلك في المقطع الثاني الذي تنامت فيه الشخصية لدى المتلقي حد الأسطرة ، تحوّلت هذه الشخصية إلى أسطورة حين ربط بينها وبين حركة الكون “ كان سيدا للشتاء والصيف .. للحر والقر”. ثلاثة عناصر تتشابك في روابط متعالقة : هيازع والقطران والزبائن في ثلاثة أماكن : الموقد والبلدة والسوق ، في ثلاثة أزمنة ما قبل السوق وأثناء وجوده في السوق وبعد خروجه من السوق ، وقد رصد الكاتب شخصية هيازع في هذه الأمكنة الثلاثة والأزمنة الثلاثة أيضا، وثلاثة مواقف أسطورية : حفره تحت الشجرة وحادثة ارتطامه بالمفاجأة ، ثم حادثة رفض القبر لاحتوائه، ثم طفوه جثة عائمة فوق سطح الأرض وإعادة دفنه ، وهذه السمة الأسطورية مع ما اقتضته من لغة شعرية وحركية وتشكّلات عبر التوازي بين الأحداث والتقاطع والتوالي وانغلاق البنية من خلال العودة إلى البداية حيث خبر الموت الذي بدأت به القصة وعملية الدفن بما اأحاط بها من غرائبية ، فكيف للقبرأن يلفظ ساكنه ودفائنه ؟ رؤية فلسفية اجتماعية عميقة ، اللافت فيها هذه المغالبة بين النار التي غدرت به بعد أن عايشته زمنا وكانت أداته وصنعته وجزءا حميما من عالمه تنقلب عليه فتفتك به ، وعلاقتها بالعشق المستحيل والمهنة التي توزعته بين رائحة القطران ولهيب النار وتراب القبر . “ ذوى كغصن شرّده الهجير من أذرع الدوح حتى هوى منكسرا وباليا فاستفه التراب” في قصة (خفاض ) في منظومة الشقاء التي تختزل عوالم المجموعة كلها ، اختصار لتاريخ طويل من التعامل مع جسد الأنثى برمزيته التي تجسد ثقافة أجيال ، وترمز إلى مفارقات ملغزة في علاقات (جندرية) تقف فيها الأنثى في مواجهة الأنوثة تقمعها وتضطهدها ، المرأة العجوز ركام من ذخائر التخلف والاصطفاف إلى جانب سلطة ذكورية مهيمنة ، والأم المستخذية الذليلة استجابة لرغبة الجدة التي تنزع هوية الأنوثة من براءة الطفولة ، ثلاثية تعكس واقعا موروثا ،ينعكس في ثلاثة مشاهد تصورها القصة : الجدة العجوز التي استأثرت بالفعل والحديث والحركة : حوارية أحادية تهيمن بها الجدة وحدها في مقابل الصمت المطبق من الأم حيث يعلوصوتها وحده طيلة زمن القصة والأم التي استبد بها السكوت ، واستعاضت عن الكلام بحركات مستكينة تسترضي بها العجوز ، والطفلة التي شاركت في المشهد بصراخها الموجوع . حادثة الختان في هذه القصة كانت ثيمة رئيسة في كثير من الأعمال السردية وأهمها رواية( أصوات) لسليمان فياض ، والقصة تمتاز بأنها جعلت من اللغة تجسيدا للرؤيا وليست وسيلة فحسب ، فالبعد الصوتي والمعجمي والنحوي والدلالي والتصويري كلها تتآزر في تشخيص الحالة ومعاينتها ، فالكاتب يتتبّع الملامح والإيماءا ت ،ويترحم لغة الجسد ؛بل يعتمد عليها من خلال مفردات تصويرية تتداعى في إيقاع منتظم. ففي الفقرة اأولى من مقاطع السرد في القصة احتشاد لمفردات حركيّة ترسم وتنحت وتشكّل وتجسّد وتلتقط وترصد من مثل: الانكسار والذبول واللزوجة والإشاحة والتجعيد والدبق والأخاديد والتخثّر والبحّة .. إلخ وعلى مدى القصة يستثمر الكاتب المفردات والتركيب لا في نقل الموقف وترجمته بل باستحضاره باللغة ومن خلال اللغة ، فأنت ترى وتحسّ وتلمس وتسمع ، ويجسد الأزمة ويتصاعد بها وينتقل من مستوى القول حيث تأنيب الجدة للأم واستسلامها (الأم) وخضوعها واسترضائها للجدة عبرالحركة بوصفها علامة لغوية حتى إذا بلغت الذروة كان الفعل وتسليط الضوء وتشخيص حركات الجدة وهي تقوم بفعل الختان حيث يتعالى صراخ الطفلة ويتصاعد قهر الأم . وفي قصة (حجارة) ابتكر الكاتب معادلا جديدا نسجه مخياله التوّاق إلى التجريب والتجديد فتتبع حركة الداخل المحتشد بالأزمة ، صاغه سلسلة من المشاهد رتّبها بعناية ، ترك المتلقي يقف حائرا في تأمله يقرأ المشهد دون أن يفهمه ، كان أشبه باللغز الذي استغلق حلّه وفي لحظة أشرق العقل بنور الحق في النهاية، فإذا الضمير المنفلت من عقاله منبتّ الصلة بمرجعيته يقع على ضالته فيكون اللقاء حميما وإذا بالحجارة التي أثقلت فكّيه فتخفف من بعضها عند شاطيء البحربوح مكتوم ومفردات عجز عن التلفّظ بها فكنّى عنها بالحجارة ، وإذا بخطواته المرقومة عدداً تسفر عن محطة أخيرة ينبلج فجرها ويسطع ضوؤها ، لم يتخلّ عن تفجير العلامات اللغوية واستنطاقها رموزا وإشارات بلا وسيط . لم نألف الترقيم في الكتابة الإبداعية ؛ ولكنه تقنية ذات دلالة في هذه القصة ، انزياح عن المألوف ومغامرة في فضاء التجريب. وفي قصص ( السلالم والنافورة والشوكة) الثلاث صوتيم مهيمن يتمثّل في الكلمة المفتاح عنوان كل واحدة منها ، فهومركز الرؤيا ومدخل الولوج إلى عالمها ، فالسلالم تصوغ المفارقة التي هي جوهر البنية السردية في القصة، حيث الارتقاء والتأمل الفاحص لكل درجة من درجات السلم والمبالغة في الاهتمام والإيقاع البطيء في وصف الحالة يقابله انهيار سريع ينتهي إلى الضياع ، اللغة – كما سبق أن أشرت – مادة خام أولية ينحت فيها الكاتب بإزميله الخاص ليصنع التمثال الذي يتصوّره قبل أن يستوي حضوراً وتشكيلاً. وكذلك النافورة وحركة المياه في خروجه ودخوله ورتابته تكافيء تلك القائمة التي تتكرّر في كل شهر ، إن الكاتب يبدي مهارة فائقة في إكساب الثيمات القديمة وجها جديدا من خلال اللغة وباللغة ؛ إنه يغوص في عمق الوعي حتى يكاد يلامس طبقاته المغمورة تحت ركام المألوفات اليومية والفورية . وفي قصة (لسان) التي تتكون من أربعة مقاطع ، كل مقطع يبدومشهدا مستقلا ، يتنقل فيها الراوي من الواقع إلى الحلم دون أي أشارة إلى ذلك سوى الأرقام التي تفيد الانزلاق بهدوء دون مقدمات من أحدهما إلى الآخر ، يرصّها بجمل وصفيّة قصيرة أشبه بفسيفساء لغويّة تومض بدلالات متزاحمة ، تتصاعد من حالة موغلة بالبؤس يحشد فيها الكاتب عشرات التفاصيل الواصفة التي تتنقل ببطء النملة من سطح إلى آخر تتقرّى أدق التفاصيل يصوغها بيد فنان ماهر ليشكل منها موشورا مكتظّا بأطياف حافلة بألوان شتى وشظايا جارحة وخلايا معتمة ، تطوف العدسة فيها في كل الأرجاء تمسح سطوحا متعدّدة ، وتغور في أعماق سحيقة تلتقط ذبذبات الروح ونبض العصر ، وترصد في مرآتها المقعّرة حشودا خفية مموّهة من الأفكار والمشاعر والرؤى ، وفي الحلم تتمازج غرائبية تخييلية مرعبة تطوف بأماكن مغلقة وحتى ما هومفتوح منه سدّته أجواء كئيبة من الدم والموت والنار ، حلم ، بل كابوس تختلط فيه المشاهد والوقائع العابرة للمألوف ، وكل ذلك تحمله لغة ممغنطة لا يكاد يفلت من بين مفرداتها النشطة وتراكيبها المتوالية دائمة البثّ في قذائف دلالية بعيدة المدى عميقة الغور ، ماذا يعني استئصال لسان الراوي في نهاية القصة بعد أن نالته كل تلك الأوصاب فأفلت من جفافه وزرقته وانحساره وحركته اللا إرادية إلى آفاق الحلم الذي بدا كابوسا مخيفا انتهى بلسانه إلى سلة المهملات وسط غرفة الطبيب الأسيف الذي رأى أن الحلّ الوحيد من العطب الذي أصابه هوالاستئصال ، هذه القصة القصيرة التي تعددت فيها المشاهد وانابت عن الأصوات أفصحت باللغة المرهفة المتناهية الحساسية المتأنية الدبيب عن رؤيا بالغة العمق غير متناهية البث. وفي قصة (تصريح دفن) تشكيل لمأزق إنساني مفارق، الحركة فيه بندولية بين الخارج والداخل بين وجهين متناقضين أشبه بالعلاقة الديسوسيرية بين الدال والمدلول ، لحظة الموت التي تتقافز فيها فلاشات وامضة بين حاضر مثقل بالأسى يراد تزيينه وتجميله ،كما لوكان ذلك ترجمة لمثل سائر يتم استحضاره في هذا الموقف الفريد (لحظة غسل الميت) وتكفينه وتعطيره (كمن يرش على الموت سكر) وفقا لمثل الشرود واستشرافات الباطن الذي يجوس خلال مخيّلة الابن الذي يرافق جثة أأبيه فتنسرب به الدروب إلى مأزق الغواية ؛ فبدلا من أن يصحب الجنازة يطارد فتاة عابرة ليجد نفسه بين فكيّ مأزق يؤخره عن الوصول إلى المسجد الذي يصلى فيه على جثة والده ،ينفصل بعالمه عن عالم الموت ليفضي به ذلك إلى قارعة الضياع. جدل الموت والحياة وحوار الظاهر والباطن ومأزق ملغز يبوح بفلسفة عميقة تتفتق عنها لحظة شريدة. قصص المجموعة منظومة مترابطة من الرؤى التي تخترق السطوح الظاهرة إلى الأعماق الغائرة.

مشاركة :