الصداع الذي أصاب الجميع مما حفلت به وسائل الإعلام و«السوشيال ميديا» لحظة تولى بايدن زمام الأمور في البيت الأبيض، جعل المتابعين يرفعون السقف ويتوقعون الأسوأ بحدوث قطيعة ما بين الرياض وواشنطن، حيث كان العنوان الكبير يدور حول مستقبل هذه العلاقة. طبعاً طُرح قبلها وخلالها سيناريوهات كرتونية بانورامية ذكّرتنا بالمشاهد البوليوودية (الهندية) لأنها شطحت كثيراً. في تقديري، وبعيداً عن العاطفة والانفعال، فإنَّ ما حدث كان عبارة عن زوبعة في فنجان، لأنَّه في نهاية المطاف لا يصح إلا الصحيح. المتابع الفطن يعلم أنه لطالما كان هناك شيء من الابتزاز السياسي والمزايدة تتعرَّض له السعودية بين حين وآخر في هذا البلد أو ذاك، خصوصاً في حال وجود أي ملف مثير للجدل، حيث يتم استغلاله أيّما استغلال. صحيحٌ أنّ قَدَر السعودية أن تكون دولة مؤثرة ومحورية في المنطقة والعالم، ولكن في ذات الوقت ونتيجة لتلك المكانة والثقل أصبحت بمثابة ورقة سياسية يتمسك بها البعض ممن لديهم أجندة معينة على قاعدة «ليس حباً في زيد، ولكن كرهاً في عمرو». هي ورقة مؤثرة بلا شك وقيمتها كبيرة، ولكن السعودية لا تقع عليها المسؤولية، وليست طرفاً بأي حال من الأحوال، ومع ذلك يُستخدم اسمها لحظة الحاجة في عالم المساومات والمقايضات من أصدقاء أو أعداء بقصد أو بغيره ودونما رغبة منها أو حتى موافقتها، ولذا منذ عقود لم تغب السعودية عن المشهد حيث يُستغل حضورها سلباً أو إيجاباً لتصفية حساب هذا ضد ذاك أو ترجيح طرف على آخر، رغم أنها لطالما حذرت وأكدت رفضها التام لإقحامها أو أسماء قادتها في الشأن الداخلي لهذه الدولة أو تلك، على اعتبار أنه لا ناقة لها فيها ولا جمل. بالارتهان للموضوعية هناك خشية وقلق لدى البعض في منطقتنا مما يجري في المملكة من تحولات وإصلاحات في عهد الملك سلمان وبقيادة ولي العهد، لأنه يعني هيمنة سعودية قادمة وحضوراً سياسياً واقتصادياً وعسكرياً ما يشكّل خطراً على مخططات بعض الدول الإقليمية ونفوذها، وبالتالي يمثل لها قلقاً وإزعاجاً، والحل هو في تشويه وضع السعودية الحالي واختلاق القصص والفبركة لتضليل الرأي العام، والتعرض للقيادة واستخدام فزاعة حقوق الإنسان وتضخيم القضايا الفردية لكونها تستحوذ على الاهتمام ويتفاعل معها الغرب، وبالتالي تعد المدخل للإساءة والتشويه المتعمّد والتجنّي. لاحظ مثلاً في قضية جمال خاشقجي، رحمه الله، لم يكتفِ الملك سلمان بإيقاف المتهمين وإحالتهم للعدالة ومحاكمتهم، بل استشعر أن هناك ضرورة لإعادة هيكلة الاستخبارات بما يحقق أهدافها ولضمان عدم تكرار ما حدث، ولكن لا تجد مثل هذا الكلام في إعلام اليسار، لأن همّه فقط تسجيل نقاط ضد السعودية. بصراحة هي حملات دعائية تصبّ في خانة الضغوط والابتزاز وتقاطُع المصالح لجماعات ودول في المنطقة، حيث قامت بتمويلها وأسهمت فيها وسائل إعلام تقليدية وإلكترونية، ما يفسّر رفض الرياض لأي أمر من شأنه المساس بقيادتها وسيادتها واستقلال قضائها. صدر تقرير المخابرات الأميركية وتلاشت معه الغيوم وانقشع الغبار، ومُني الحالمون بالصدمة، ولم يتحقق ما دار في مخيّلتهم، وخابت آمالهم، فالمسألة حينما تتعلق بصلات وعلاقات دول وتعامل مؤسسات ومستقبل شعوب وأمن العالم، فإن التعاطي يكون مختلفاً والمواقف تتحرك وفق ميزان الربح والخسارة، ولا عزاء للناعقين والمتربصين والانتهازيين. يجب التنويه هنا إلى أن تعاطي المخابرات الأميركية مع الملف شابَه كثير من الأخطاء، في نظرة قاصرة وعقيمة. ومن المعيب أن تخرج مثل هذه الأشياء فقط لإرضاء الجناح اليساري في الحزب، وهو أمر غير مقبول ويتنافى مع الاتفاقات والمواثيق الدولية. كما أن الإدارة لم تجد في التقرير الاستخباراتي ما يساعدها على اتخاذ قرارات صائبة، بل بالعكس، تعجلت باتخاذ قرارات غير موفَّقة خاصة فيما يتعلق برفع صفة الإرهاب عن جماعة الحوثي. ومع ذلك ومهما يكن من أمر فإنه يجب أن نعترف بأن الرياض وواشنطن استطاعتا خلال العقود الماضية تجاوز كثير من فترات التوتر والفتور والأزمات، لأنه كان من غير المقبول أن تفرط الدولتان في علاقة استراتيجية نحو ثمانية عقود. ستة وسبعون عاماً مرَّت على اللقاء التاريخي بين الملك المؤسس عبد العزيز والرئيس الأميركي الأسبق فرانكلين روزفلت، على متن السفينة البحرية «كوينسي»، فكانت لحظة تاريخية أسّست لما بعدها. علاقة الرياض وواشنطن لا تنتظر إشارات حُسن نية أو علاقات عامة، بل ارتكزت على عمل مؤسسي مشترك ومستدام لتحقيق الأهداف منذ زمن بعيد. العمل والتنسيق والحوار المشترك والتعاون الثنائي مستمر على كل الأصعدة، وليس بالضرورة أن يعلَن عن كل شيء، فالاتصالات مستمرة والجداول مزدحمة واللجان عملها لا يتوقف، وعناوين الصحف الصفراء لا تعكس بالضرورة واقع العلاقة اليوم. نعم حدثت اجتهادات غير موفقة ولكن تصحيح المسار هو المطلوب، بدليل ما نسمعه اليوم من تصريحات جديدة تخالف ما سمعناه في الأسابيع الأولى، وهذا ما يعكس أهمية العلاقة ما بين البلدين ورسوخها. ومع ذلك نحن لا نتوقع أن تكون علاقات البلدين وردية دائماً وليس بالضرورة أن تكون وجهات النظر متطابقة، ولكن من المهم أن تقرأ الإدارة الأميركية المشهد جيداً وتُصغي إلى حلفائها وتتلمس مكامن المخاطر، وأن تُميز ما بين الحليف والعدو، وألا تكرر أخطاء إدارة أوباما، عبر صياغة سياسة تخدم أمن المنطقة واستقرارها. نقلا عن الشرق الأوسط
مشاركة :