الكتابة عن أدب الحج تجيء غالبا بشكل يصعب فيه التفريق بين ماهو ثقافي وما هو أدبي؛ فالحج ملهمٌ للكتابات كافة، يمس الروح فتحترق بخورًا روحانيّاً ولهذا فمن الصعب أن تخرج عملية تتبع الحج كأثر عن هذه الهويّة الجامعة فهو رصد لروحٍ تهفو لمكان واحد وشعائر واحدة تتجلّى فيها كل وشايات الروح حينما تستلهم اليقين وتوثّقه مكانًا وزمنًا، وإذا ما قفزنا فوق إشكالية التفريق هذه، وفتّشنا في مذكّرات الحاضر عن سمات الحج كرحلة تحمل في سلّتها هذا الحدث الإنساني العظيم بكل ما يحتمله من مواقف وأحداث فإننا سننكشف للأسف الشديد على غياب كبيرٍ لأدب الحج؛ لعلّنا نحيله إلى عملية التخصص " الكتابي " في العصر الحديث مقارنة بما كان عليه الأمر قديما إذ يظهر الحج في رحلات الكتاب والفقهاء القدماء واضحًا جليًّا وبصبغة أدبية مشوّقة ..ونظرة خاطفة إلى تراثنا القديم تكشف لنا عن كنوز هائلة من الكتابات العميقة والمؤثرة في هذا السياق فهذا الحاج المثقف ابن جبير الأندلسي على سبيل المثال يجعل من خطواته إلى مكة ومنها أثر أخلد من حدث وأبقى من حروف أو ابن بطوطة المغربي الذي جاءت رحلته إلى الحج صفحة ثرية وعظيمة من صفحات رحلاته التي اشتهر بها أوحتى ناصر خسرو الخراساني، الذي يجعل من رحلته إلى الحج رائعة من روائعه النثرية يصف فيها بدقة عالية كل تفاصيل الرحلة روحًا ورواحًا ليترك لنا صوراً ثرية من صور ذاك الزمان البعيد، حيث لولا كل تلك الكتابات الرفيعة والدقيقة ما بلغنا شيئاً عنه ولاندثرت صورته مع صور عديدة بفعل عوادي الزمن ومتغيرات الإنسان على الأرض مكانًا وتطوّرا. ومهما يضمر هذا الأدب في الحاضر مقارنة بما كان عليه في الماضي فإنّه لابدّ أن يطلّ برأسه بين حين وآخر، فالحج تحديدا رحلة روح لاتغيب عنه حين تسجّل خطراتها وترصد تاريخها، فهذه الشاعرة والكاتبة الكويتية سعدية مفرّح ترصد رحلتها إلى الحج عبر سلسلة مقالات نشرت بالتتابع في صحيفة الرياض تحت عنوان " رحلتي إلى الحج " وبعناوين فرعية متنوعة مدركة أهمية هذا الأدب والرصد حيث تقول : " يظن بعض من يتابع هذه السلسلة التي أكتبها عن رحلتي إلى الحج لأول مرة في حياتي أنها نص ميت، أو كتابة منتهية، أي أنني كتبتها أثناء أو بعد تلك الرحلة بصورة متكاملة وانتهى الأمر، ثم عدت لأنشرها مقسمة على حلقات متوالية في هذه الزاوية. لكن هذا غير صحيح. فأنا أكتب كل مقالة أنشرها من هذه السلسلة قبل نشرها بيومين تقريبا، اتكاء على ذاكرة مرهقة، واعتمادا على شوق متجدد لبيت الله الحرام مع كل كتابة جديدة أو حتى تعليق يأتيني حول ما أكتبه. ولأن التعليقات كثيرة ومتوالية، فقد تجاهلت خاطراً طرأ وخوفني من ملل قد يصيب المتابع لهذه السلسلة ذات العنوان المشترك الواحد عن رحلة خاصة بصاحبة الرحلة التي يقوم بها ملايين البشر كل سنة منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة.. تجاهلت ذلك الخاطر عمداً استجابة لرغبتي في الاسترسال واحتفاء بذاكرتي التي تحيا وتموت مع كل لقطة تلوح في أفق ما رأيت في دائرة تلك الرحلة المبهجة فعلاً". والحقيقة أن هذا الإيضاح أو التنويه يعكس لنا بشكل كبير مفهوم هذا الأدب وتجذّره في الذات الإنسانية حين يشكّل مرجعا روحانيا لذات تكتب روحها يقينا وتسترسل في سطورها حدثا واجب التوثيق. وقبل هذه الالتفاتة لأهمية رصد هذه الرحلة الروحانية من قبل الشاعرة والكاتبة الكويتية بست عقود تقريبًا كان المفكر والناقد العربي الكبير طه حسين قد وقف من رحلته إلى الحج في عام 1955م موقفا إبداعيًّا تذاكرته الأخبار وتناقله المؤرخون، ولم يكن وصفه لرحلته تلك بعيدًا عن الطبيعة الروحانية التعبيرية لهذا الأدب؛ إذ كتب بعد رحلته قائلا «لقد تركتْ زيارتي للحجاز آثاراً قوية رائعة في نفسي، لا يمكن أن تصور في حديث أو أحاديث. وحسبك أنها الموطن الذي أشرق منه نور الإسلام، ونشأت فيه الحضارة العربية الإسلامية. وما أعرف قُطراً من أقطار الأرض أثَّرَ في عقول الناس وقلوبهم وأذواقهم كما أثَّرتْ هذه البلاد، وكما أثّرَ الحجاز فيها بنوع خاص». وحين سئل ذات يوم عن انطباعاته وشعوره حيال رحلته هذه أجاب:"إن أول ما شعرتُ به، ومازلتُ أشعر به إلى الآن، هو هذا الذي يجده الغريب حين يؤوب بعد غيبة طويلة جداً إلى موطن عقله وقلبه وروحه بمعنى عام". على مستوى الشعر وهو في كل العصور والأزمان ذاكرة العربي ودهشته الأولى، جاء الحج لغة تستلهم الروح، تأخذها إلى خلود اللحظة وشاعريتها معا، يقول شوقي مستلهما الحج رؤيا: إلى عرفات الله يا خير زائر عليك سلام الله في عرفات ويوم تُوَلي وجهة البيت ناضرًا وسيم مجالي البشر والقسمات على كل أفقٍ بالحجاز ملائك تزف تحايا الله والبركاتِ وفي الكعبة الغراء ركن مرحب بكعبة قصادٍ وركن عفاة وما سكبَ الميزاب ماءً وإنما أفاض عليك الأجر والرحمات وزمزم تجري بين عينيك أعينًا من الكوثر المعسول منفجرات ويرمون إبليس الرجيم فيصطلي وشانيك نيرانًا من الجمرات ولعلّ أهم ما يمكن رصده في أدب الحج نثره وشعره هو تلك السمات الفنية والخصائص الأسلوبية التي تميزه عن غيره من الآداب التي كتبت في تجارب إنسانية أخرى، وأهم هذه السمات شفافية التعبير المفرطة والناتجة عن امتزاج الروح بالزمان والمكان معا، مما يجعلنا نترك الباب مفتوحا على سؤالٍ كبير عن أسباب تضاؤل هذا الأدب وفتوره في العصر الراهن مقارنة بما كان عليها أجدادنا الأدباء الحجاج قديما.
مشاركة :