حتى الآن المسألة الإيرانية في عنق الزجاجة. ويعجز دهاة السياسة عن تفسير ما يحدث بين يوم وآخر. يخيل إلينا أن النظام الإيراني تحول من فأر في المصيدة إلى ديناصور يحاول التهام ما حوله، أو استفزاز الآخرين بلا سبب منطقي.بل إن طهران بدأت تفرض «شروطاً» لحضور «مباحثات نووية»، بينما يتردد كلام عن وضع إيران «في الصندوق» مع برنامجها النووي. وهو مقترح قابل للدراسة لو تخلت طهران عن برنامجها النووي وتدخلاتها المرفوضة في دول ذات سيادة. وهذه أول مرة نسمع فيها عن «صناديق» نووية لدولة خارجة عن القانون الدولي بكل تفصيلاته السياسية من انتهاكات حقوق الإنسان داخل إيران نفسها، وفي الدول التي تسللت إلى مراكز القرار فيها مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن، عدا إرهابها العابر للبحار وخرقها للالتزامات الدولية.هل يمكن احتواء نظام شرير حِرفته الأساسية الإرهاب وتضليل الرأي العام الدولي والوكالات المتخصصة ومنظمات حقوق الإنسان ومعاهدات البحار وسيادات الدول القريبة والبعيدة؟ كلنا نتمنى أن يكون «الصندوق» هو علاج الصداع الدولي وأمراض السياسة المزمنة في هذه المنطقة من العالم. لكن التمنيات لا علاقة لها بالسياسة.تظن إيران أنها الرابح الوحيد بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، ولذلك لم تتردد في مواصلة مدّ يدها اليمنى لزرع الإرهاب الحكومي أو الميليشياوي في الدول الأربع التي لها سلطة عليها، بينما تمدّ يدها اليسرى لاحتواء المشهد السياسي الدولي سواء في الاتفاق النووي أو الباليستي أو العقوبات الاقتصادية.حين وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها في عام 1918 بمعاهدة فرساي وتقسيم ألمانيا إلى أجزاء وأقاليم نسي المحتلون شريطاً ضيقاً ضم مدناً صغيرة على الحدود مع فرنسا سرعان ما قرر سكانه تأسيس دولة مستقلة تمت تسميتها بـ«دولة عنق الزجاجة المستقلة»، وهي في الحقيقة لم تكن تملك مقومات الدولة بالمفهوم النظامي والدستوري، واسمها نفسه تم اختياره من شكلها الجغرافي، ولذلك عادت إلى ألمانيا بعد أربعة أعوام من «تأسيسها»، لكن اسمها دخل تاريخ منظمة اليونيسكو كإرث عالمي فريد، وظلت مضرب الأمثال في أزمات الدول الكبرى، حتى أن النجمة المسرحية المصرية الكبيرة سهير البابلي خلدتها في إحدى مسرحياتها حين انتقدت عهد الرئيس المصري الراحل أنور السادات ووصفته بأنه «نظام عنق الزجاجة»، لكنها استدركت قائلة: «نحن نفضل قعر الزجاجة»!لقد مرّت دول كثيرة بتجربة «عنق الزجاجة» الخانقة، ليست آخرها «الحرب الباردة» بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي عقب الحرب العالمية الثانية مثل الحرب الكورية 1950 - 1953 وأزمة برلين 1961 وحرب فيتنام 1956 - 1975 والغزو السوفياتي لأفغانستان 1979 - 1989 وأزمة الصواريخ الكوبية 1962. وامتدت الحرب الباردة إلى كل مكان في العالم في خضم الصراع بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي إلى أن انهار الاتحاد السوفياتي في عام 1991 لتنفرد الولايات المتحدة بلقب «القوة العظمى الوحيدة».وكان الكاتب الإنجليزي الشهير جورج أورويل مؤلف كتاب «1984»، الذي يفضح فيه بخيال سياسي الأنظمة الاستبدادية الديكتاتورية، شاهداً «ما شافش حاجة» على مؤتمر طهران في عام 1943. حين اجتمع زعماء الاتحاد السوفياتي وبريطانيا والولايات المتحدة جوزيف ستالين وونستون تشرشل وفرانكلين روزفلت لتقسيم العالم تحسباً لهزيمة ألمانيا النازية بقيادة هتلر، كان ذلك المشهد الحقيقي بداية الحرب الباردة التي يسعى البعض إلى استعادة تضاريسها الوعرة والمروعة في العالم السيبراني المكون في بيئة تفاعلية عبر الأجهزة الرقمية والبرمجيات والشبكات الفضائية.يريد بعض منظّري السياسة الدولية أن يتحول سكان الأرض إلى جمهور خيالي يتابع حروباً وهمية، كما في أفلام هوليوود، حيث الأزرار والفيروسات والهجمات الإلكترونية والتصيّد الاحتيالي والبيانات الغامضة والنداءات المجهولة القادمة من أعماق الفضاء الكوني.هل يعلم هؤلاء المنظرون أن عدد الجياع في العالم أشرف على المليار نسمة، وفقاً لبيانات منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)؟ أيهما أهم.. الأمن الغذائي أم الحروب السيبرانية؟ نفتح قوساً ونضع جائحة كورونا «كوفيد - 19» في هذا السؤال لكي نعلم أن معضلة الجوع تفاقمت في كل العالم وليس في أفريقيا وآسيا فقط. وطوابير الجياع طويلة وممتدة حتى صارت «وطناً» لكل الجياع بشكل لم يتخيله ستالين ولا تشرشل ولا روزفلت حين أعلنوا مولد الحرب الباردة في مؤتمر طهران عام 1943 من داخل السفارة السوفياتية في العاصمة الإيرانية.بعد 78 عاماً من تلك الولادة القيصرية، وما تخللتها من حروب ساخنة في آسيا وأوروبا وأفريقيا وأميركا نفسها، هناك من يدعو إلى العودة إلى الحرب الباردة مع إيران، الغارقة في مستنقع الإرهاب الدولي وأحلام الإمبراطوريات المنقرضة ودهاليز الخرافات.لم أقرأ فنجان خامنئي، إلا أنني أقول: إن النظام الإيراني المخنوق في عنق الزجاجة سيظل يراوغ إلى أطول فترة ممكنة، وهذا هو الفصل الثاني من الحرب الباردة العالمية. لكن هذا النظام الكسيح سيندم كثيراً بعد فوات الأوان.
مشاركة :