ظل أغلب صناع السياسة الأمريكية يعتمدون طوال السنوات الماضية في تعاملهم مع الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين على مقاربة تركز على إسرائيل مع تجاهل شبه كامل لمعاناة الشعب الفلسطيني. ظل مهندسو السياسة أيضا في مختلف الإدارات الأمريكية المتعاقبة يتحدثون عن هذا الصراع وكأن مصير الجانب الإسرائيلي يحظى بكل الاهتمام. ظل الساسة الأمريكيون يعاملون الإسرائيليين كبشر مكتملي الإنسانية بآمالهم ومخاوفهم، فيما ينظرون إلى الفلسطينيين على أنهم مجرد مشكلة تتطلب حلا حتى يتسنى للإسرائيليين العيش في كنف السلام والأمن. بل إنه ينظر إلى الفلسطينيين أحيانا وكأنهم أقل إنسانية من الإسرائيليين، ولا يحق لهم بالتالي المطالبة بالاعتراف بحقوقهم وحمايتها. ظلت الولايات المتحدة الأمريكية تتحرك وفق هذه الذهنية وتعطي إسرائيل صكا على بياض مع مواصلة الضغط بالمقابل على الفلسطينيين ومعاقبتهم. في بعض الأحيان يضطر الساسة الأمريكيون إلى الحديث على استحياء عن بعض الممارسات الإسرائيلية من دون اتخاذ أي إجراءات ملموسة من أجل تغييرها ووضع حد لها. لذلك لم يكن هناك أي سبب يجعل إسرائيل تغير سياستها. نتيجة ذلك، ظلت إسرائيل تفلت دائما من العقاب فيما يتعرض الفلسطينيون للإدانة ويتم تجاهل أو إسكات أصواتهم واحتجاجاتهم، باعتبار أنها ستأتي بنتائج عكسية وتقوض الجهود الرامية إلى تحقيق السلام. تتنزل بعض المواقف وردود الأفعال التي صدرت مؤخرا عن إدارة جو بايدن في هذه الذهنية. خلال الأسابيع القليلة الماضية أدانت الولايات المتحدة الأمريكية القرار الذي اتخذته المحكمة الجنائية الدولية بالشروع في التحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة منذ سنة 2014 والتوسع الاستيطاني في الضفة الغربية، كما نددت بمجلس حقوق الإنسان المنبثق عن منظمة الأمم المتحدة، الذي أدان الانتهاكات الإسرائيلية للحقوق الفلسطينية. خلال الأسابيع القليلة الماضية اعتمدت الولايات المتحدة الأمريكية أيضا المفهوم الموسع لمسألة «معاداة السامية» حتى يشمل حتى الانتقادات الشرعية الموجهة لإسرائيل. ظلت الولايات المتحدة الأمريكية أيضا تعارض قيام الفلسطينيين بتقديم شكوى إلى المنظمات الدولية، معتبرة أن «هذا الإجراء من شأنه أن يؤدي إلى زيادة حدة التوتر ويقوض الجهود الرامية إلى تكريس حل الدولتين عبر التفاوض». لا ترى الإدارات الأمريكية أن التوترات لا تزداد وأن جهود السلام لا يقوضها قيام إسرائيل بمصادرة الأراضي الفلسطينية وتوسيع نطاق البناء الاستيطاني، وهدم منازل الفلسطينيين واعتقال مئات الفلسطينيين من دون توجيه تهم لهم، إضافة إلى أسلوب العقوبات الجماعية التي تسلط على السكان الفلسطينيين في غزة وقتل العديد من الفلسطينيين في الفترة ما بين 2014 و2018. أما الفلسطينيون الذين يسعون للتصدي قانونيا لمثل هذه السياسات الإسرائيلية فإنهم يتهمون بتقويض الجهود الرامية إلى تحقيق السلام وتكريس حل الدولتين. خلاصة الأمر تظل إسرائيل تحظى بدعم الولايات المتحدة الأمريكية مهما فعلت ومهما صدر عنها، لكن عندما يعبر الفلسطينيون عند احتجاجهم فإنهم يتعرضون للشجب ويعتبرون مخطئين، ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تفعل شيئا من شأنه أن يحميهم. بقطع النظر عن النوايا الأمريكية فإن مثل هذه السياسات التي ظلت تنتهجها الإدارات الأمريكية تعني أن حقوق الإنسان الفلسطيني غير مهمة وأنها ستظل دائما مرتبطة بالمصالح الإسرائيلية. خلال الإيجاز الصحفي الذي عقدته وزارة الخارجية الأمريكية مؤخرا طرح أحد الصحفيين السؤال التالي: «بالنظر إلى موقفكم الحالي من الفلسطينيين فأين يذهب الفلسطينيون إذن للمطالبة بالمساءلة فيما يعتبرونه مشكلة؟». جاء رد المسؤول في وزارة الخارجية الأمريكية كالآتي: «بطبيعة الحال ستظل الولايات المتحدة الأمريكية تدعم حقوق الإنسان. لذلك فقد أكدنا أننا سنظل ندعم حل الدولتين من أجل إنهاء هذا الصراع الذي دام طويلا.. لأن ذلك من شأنه أن يحمي هوية إسرائيل كدولة يهودية ديمقراطية ويمكن الفلسطينيين من إقامة دولة قابلة للحياة وتحقيق طموحاتهم الوطنية في الكرامة وتحقيق المصير». لم تكن هذه الإجابة تمثل الرد المناسب على السؤال المطروح. لذلك فقد ردد الصحفي الذي طرح السؤال قوله «إلى أين يذهبون؟» ثلاث عشرة مرة من دون أن تأتيه الإجابة. إن أفضل ما قدمته هذه الإدارة الأمريكيين للفلسطينيين حتى الآن ذلك الالتزام الغامض بصيغة «حل الدولتين عبر المفاوضات بما يمكن إسرائيل من العيش بسلام وأمن جنبا إلى جنب مع دولة فلسطينية قابلة للحياة». يظل مثل هذا الالتزام واهيا لأنه لا ينهي السياسات الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين ولا يضع حدا لمصادرة أراضيهم، كما أن الولايات المتحدة الأمريكية تظل ترفض ممارسة أي ضغوط من أجل إنهاء هذه الانتهاكات الإسرائيلية. لقد تجلت السياسة التي تتعامل بها الولايات المتحدة الأمريكية مع الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين في الكلمة التي أدلى بها مؤخرا السفير الأمريكي في اجتماع لمجلس الأمن القومي، إذ إن كل تركيزه قد انصب على إسرائيل مع ربط أي حديث عن الفلسطينيين بالمصالح الإسرائيلية. على سبيل المثال، عبر السفير الأمريكي عن أمله أن يحصل الإسرائيليون والفلسطينيون معا على اللقاح المضاد لفيروس كوفيد-19 غير أنه لم يأت على ذكر رفض إسرائيل تحمل مسؤوليتها في هذا الصدد. اعترف السفير بما أسماه «التفاوت الاقتصادي الكبير» ما بين الإسرائيليين والفلسطينيين غير أنه أرجع ذلك إلى «مسألة هيكلية يجب تشخيصها ومعالجتها» من دون أن يقر بأن هذه «المسألة الهيكلية» لها اسم: «الاحتلال». عبر السفير عن عزم الولايات المتحدة الأمريكية استئناف تقديم المساعدات للفلسطينيين غير أنه زعم ستفعل ذلك لأنه «يصب في نهاية المطاف في مصلحة أمن إسرائيل»، ولم يفت السفير بطبيعة الحال أن يضيف أن «جهودنا الرامية إلى إعادة التواصل مع الشعب الفلسطيني وقيادته لا تنتقص بأي حال من الأحوال من التزامنا تجاه إسرائيل». قبل خمسة وأربعين سنة أطلقنا حملة الدفاع عن حقوق الإنسان الفلسطيني تحت شعار: «الفلسطينيون لهم أيضا حقوق إنسانية!». لقد أعددت أيضا دراسة بعنوان: «الفلسطينيون: الضحايا غير المرئيين». لقد كنا نرمي من وراء هذه الحملة إلى تأكيد إنسانية هذا الشعب الذي طالت معاناته. من المؤسف حقا أن هذا التحدي لا يزال قائما حتى اليوم مثلما كان عليه الأمر في الماضي. { رئيس المعهد العربي الأمريكي
مشاركة :