لماذا ينكر البعض في عالمنا العربي على بعض القيادات العسكرية افتتانهم بالثقافة والفنون، والعلوم والآداب؟ يحتاج هذا التساؤل إلى إجابات من علماء الاجتماع، وربما علماء الطب النفسي، ولكن يبقى من المؤكد أن هناك شخصيات بعينها، عبر التاريخ العربي المعاصر، أثبتت أنه يمكن الجمع بين الحياة العسكرية والمشاركة والمساهمة بفاعلية في الحياة الفكرية، والجمع بينهما من غير أي تضاد ظاهر أو خفي. وهذه الأيام تمر الذكرى المئوية لمولد الدكتور ثروت عكاشة، وزير الثقافة المصري الأسبق، وضابط سلاح الفرسان، وعضو تنظيم الضباط الأحرار، الذين قادوا ثورة مصر عام 1952، والفائز بجائزة الشيخ زايد للكتاب فرع الفنون والدراسات النقدية 2007. وتضيق المساحة في هذا الموضوع عن سرد وعرض الحياة الخاصة لعكاشة منذ مولده عام 1921، إلى أن غادر دنيانا في 2012، وما يهمنا هنا هو إلقاء الضوء على هذا الفارس المثقف، الذي كان من نصيبه بعد نجاح الثورة، العمل على إعادة صياغة الوجدان المصري، كما حدد البكباشي جمال عبدالناصر تكليفه في الأسابيع الأولى من الثورة، معتبراً أن مهمة بناء المصانع أسهل كثيراً جداً من بناء الإنسان. وحين قامت الثورة في يوليو من عام 1952، كانت الحالة الثقافية في مصر قد بلغت حداً متردياً، واعتبر الضباط الأحرار أن مهمة صياغة رؤى ثقافية لمصر بعد الثورة، تعتبر من مهام الأمن القومي. وفي عام 1958 استدعى جمال عبد الناصر، د. ثروت عكاشة ، من روما وقد كان يشغل منصب سفير مصر هناك، وفي اللقاء الذي جمعه به بعد عودته السريعة من العاصمة الإيطالية، أخبره ناصر بأنه لم يستقدمه من عاصمة النهضة الأوروبية ليتولى وظيفة شرفية، بل قال له :«اعرف أنك ستحمل عبئاً لا يجرؤ على التصدي لحمله إلا قلة من الذين حملوا في قلوبهم وهج الثورة حتى أشعلوها، وعلينا الآن أن نحرث تربتها ونقلبها ونسويها ونغرس فيها بذوراً جديدة، لتنبت لنا أجيالاً تؤمن بحقها في الحياة والحرية والمساواة». وشغل عكاشة، الذي حصل على درجة الدكتوراه في الآداب من جامعة السوربون عام 1960، منصب وزير الثقافة والإرشاد القومي، في الفترة ما بين 1958 و1962. مع جمال عبد الناصر (أرشيفية) مع جمال عبد الناصر (أرشيفية) الفارس المثقف وخلال تلك السنوات الأربع، نجح الفارس المثقف في تغيير المشهد الثقافي المصري بصورة حقيقية لا دعائية، من خلال مشروع ثقافي كبير، متعدد المشارب والتوجهات، فقد أعاد هيكلة وبلورة الأطر للمؤسسات الثقافية المصرية، تلك التي شكلت البنية التحتية الفكرية لمصر الحديثة، والتي لا تزال مصر تمضي في دربها، وفي المقدمة منها المجلس الأعلى للثقافة، والهيئة العامة للكتاب، وأكاديمية الفنون، ودار الكتب والوثائق القومية، وفرق دار الأوبرا، والسيرك القومي، وبعض المسارح الشهيرة. ويمكن القطع بأن مصر كانت تمضي في الفترة من 1952 إلى 1962 في طريق بناء مصرَين، لا مصر واحدة، مصر على صعيد الحجر، وأخرى تهتم بالبشر، والتعبير يحمل ولاشك مجازاً واضحاً. وكان عبدالناصر مهموماً بل محموماً ببناء البنية التحتية الصناعية للبلاد، إلى جانب إنشاء القطاع العام، وتوفير درجة من التكافل الاجتماعي لجميع المصريين، فيما حمل ثروت عكاشة عبء النهضة الثقافية، التي أوصلها للمدن والقرى من خلال تجربة الثقافة الجماهيرية، حيث أنشأ في كل مدينة بيتاً للثقافة. وفي زمانه، راجت فكرة المكتبات المنتشرة في المدن، ووجد الكتاب والمؤلفون الدعم اللازم لنشر مؤلفاتهم، وعليه فقد خرجت الثقافة المصرية من ضيق التوجه المركزي في العاصمة والمحافظات الكبرى، إلي براح الريف والقرى والنجوع، لتصبح قضية الثقافة بحق قضية وطنية عامة تشمل الشعب بأسره. إنقاذ معابد النوبة وثمة تساؤل يجدر طرحه، في هذا المقام، هو: هل هناك مشروع بعينه سيذكره التاريخ على مدى الأجيال وقد ارتبط ارتباطاً وثيقاً باسم ثروت عكاشة؟ والجواب يحتاج إلى قراءة قائمة بذاتها، ولكن باختصار غير مخل، يمكننا الإشارة إلى مشروع إنقاذ معابد النوبة، وتبلغ نحو 16 معبداً، كان مصيرها الغرق بعد إنشاء السد العالي. وعن هذا يقول الدكتور ثروت عكاشة في مذكراته: «وفي الحق إن المشكلة الجوهرية التي استولت على أغلب جهودي واستأثرت بمعظم اهتمامي في مجال الآثار كانت مشكلة إنقاذ معابد النوبة نظراً للمصير المأساوي الذي كانت ستتعرض له معابد هذه المنطقة، فقد تهددت بطغيان المياه عليها وغمرها إلى آخرها في وقت مرهون أجله بمراحل تشييد السد العالي. ولا أنكر أن انصرافي المطلق نحو إيجاد حل لهذه المشكلة وجعلها تتمتع أكثر من غيرها بالأسبقية، فحين يتحمل المرء مسؤولية ما، ويحدد الهدف الذي ينبغي الوصول له عليه أن يتخذ القرار بتحديد الأولويات في مشروعاته». وكانت العلاقات بين مصر والدوائر الغربية ولاسيما الولايات المتحدة الأميركية في تلك الفترة غير سوية، ومع ذلك نجح الوزير الفارس المثقف في أن يخاطب ضمير العالم لإنقاذ تلك المعابد، وقد نجح في ذلك إلى أبعد حد ومدى، إلى الدرجة التي دفعت الولايات المتحدة الأميركية نفسها لأن تشارك في هذا العمل الحضاري الكبير. 55 كـتـابـاً وقد استطاع عكاشة أن يقنع هيئة اليونيسكو، التي تمثل عقل الأمم المتحدة الثقافي، بأهمية هذه الخطوة، التي ما كانت مصر تقدر عليها بمفردها، وقد أثمرت جهوده بالفعل في انتشال تلك الآثار الحضارية منقطعة النظير، لتظل شاهدة على كفاءة هذا المسؤول فوق العادي. ومرة أخرى، عاد ثورت عكاشة إلى منصب وزير الثقافة، وكان ذلك في الفترة من 1966 إلى 1970، وللقارئ أن يدرك مدى جسامة المسؤولية في تلك الفترة، التي شهدت انكساراً كبيراً في النفس المصرية بعد هزيمة 1967، وكانت البلاد والعباد في حاجة إلى استنهاض الهمم مرة جديدة، والاستعداد لمعركة التحرير. ونجح عكاشة بالفعل في إحداث تغيير جذري مكمل في المشهد الثقافي مرة أخرى في تلك الفترة، وكان الدعم الأدبي والثقافي، المسرحي والسينمائي، الصحفي والإذاعي، من العوامل التي ساعدت في رفع الروح المعنوية المصرية في زمن حرب الاستنزاف ورفض الاستسلام، ما قاد لاحقاً إلى النصر الكبير في حرب أكتوبر 1973. أما عن المعين الفكري والثقافي الذي خلفه عكاشة، فيزيد على 55 كتاباً، بين التأليف والتحقيق والترجمة، وفي مقدمها تلك الموسوعة الخالدة في تاريخ الفن الأممي، التي أطلق عليها عنوان «العين تسمع والأذن ترى»، وصدرت في 16 مجلداً استغرق العمل عليها 25 عاماً من سنوات عمره. ويمكننا، ومن غير تهويل، اعتبار الدكتور عكاشة مثقفاً عضوياً بتعبير جرامشي، والمثقف المعولم بحسب واقع حال حاضرات أيامنا، ذلك أنه ومع حرصه الشديد على هويته القومية، فقد مثل مشروعه الفكري إنجازاً غير مسبوق مع العوالم والعواصم الثقافية حول العالم، وكان بعيداً كل البعد عن الانغلاق على الذات، بل شرع الأبواب الثقافية المصرية واسعة على جميع التيارات الثقافية العالمية، وفتح النوافذ للهواء الطلق النقي، وليس للرياح التي تخلع البيت من جذوره. والحال أن عكاشة في مئويته ترجمة للقول إن الفكر لا وطن له، وإن الحضارة تراث واحد ممتد ومتواصل لابد وأن ننهل منه كيفما نشاء.
مشاركة :