أمّ المسلمين اليوم الجمعة في المسجد حرام فضيلة إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور فيصل غزاوي فتحدث فضيلته في خطبته الأولى عن كثرة النعم فقال : ما أكثرَ نعمَ الله علينا وإحسانَه إلينا إذ أفاض نعمه بلا عد ولا حد (وأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً..) وقال سبحانه: (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) وإن من النعم التي قد لا يشعر بها كثير من الناس ولا يَقْدُرُونها قدرها نعمةَ العافية، وما أدراك ما نعمة العافية! فكم من إنسان يرفل في ثوب العافية، ويتنعم بنعم وافرة لكنه لا يشكر من أسداها إليه بل ينسى المنعم بها عليه. ولا يُدرِكُ قيمةَ العافية إلا من فقدها؛ فالعافيةُ إذا دامَت جُهِلَت، وإذا فُقِدَت عُرِفَت لذتُها وانكشفت متعتُها، وقد قيل في الحكمة: العافية هي الملك الخفي. وتحدث فضيلته عن مفهوم العافية فقال : ومفهوم العافية واسع لا ينحصر في عافية الجسد وصحة البدن كما قد يفهمه بعض الناس بل هو يشمل الدنيا والآخرة فقد ذكر بعض العلماء أن أظهر الأقوال في قوله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) أن الحسنة في الدنيا العبادةُ والعافية، والحسنةَ في الآخرة الجنةُ والمغفرة. واختتم فضيلته خطبته الأولى عن ماقد يحدث اذا سلبت من العبد العافية فقال : قد يسلب المرء العافية ويُحْرَمُها، أو يُكَدِّرُها تنغيص ونقصان وهذا يكون في أمرين: الأمر الأول: في الدين، بالشبهات أو الشهوات قال ابن القيم رحمه الله: (القلب يعترضه مرضان يتواردان عليه، إذا استحكما فيه؛ كان هلاكُه وموته، وهما مرض الشهوات ومرض الشبهات، هذا أصل داء الخلق إلا من عافاه الله). أما الأمر الثاني: مما يكون فيه سلب العافية أو نقصانها فهو الدنيا، بمرض جسد؛ كما يفهم من قوله صلى الله عليه وسلم: ” مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا”. وقد يكون ذلك بعدوان عدو من جن وإنس، فعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أَيُّهَا النَّاسُ، لاَتَتَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، وَسَلُوا االله العَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا) وقد يكون سلب العافية أو نقصانها في الأهل والمال فمن دعائه صلى الله عليه وسلم (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي). إذا تبين ذلك عباد الله فما أشد حاجتنا إلى التِزام سؤال الله العافية في الدِّين والدُّنيا والآخرة! أما العافية في الدين فهو أن يقيك من كل أمر يَشين بدينك أو يُخل به أو يَخدِش فيه، من المصائب والفتن والشبهات والشهوات، وغيرِها مما يؤثر على العبد في دينه، ويتسبب في رقته، وإضعاف الإيمان في قلبه، فما أعظم أن يعافيك الله ويسلمّك من هذه الأمراض، ويدفعها عنك حتى تستقيم على الصراط المستقيم، وتثبت على الدين القويم. وأمَّا العافية في الدنيا، فهي أن يعافيك ويسلمك من كل ما يكدر العيش الدنيوي مِن هُموم وأكدار وأحزان وآفاتِ وأدواء وأسقام، وأمَّا سؤال العافية في الآخرة، فهو أن يعافيك مِن فِتنَتِها وعذابها وسَعيرها وينجيك من أهوالها وشدائدها. وتحدث فضيلته في خطبته الثانية عن تفكر الإنسان بالعافية فقال: وكم من إنسان تحفه العافية وتغمره فلا تخطر بباله الآلام والبلايا، ويبلغ به الأمر مداه في اتباع هواه بأن يَسخَر من أهل البلاء، ولا يحمدَ الله أن سلمه وعافاه. روي عن عيسى عليه السلام أنه أوصى الحواريين بوصية منها قوله: “… والناس رجلان معافى ومبتلى، فارحموا أهل البلاء في بليتهم، واحمدوا الله على العافية” . فما أحوجنا ونحن مطمئنون في حصن العافية إلى اليقظة والإفاقة والتوبة والإنابةِ والدعاء وقت الرخاء قبل نزول البلاء، قال عبد الأعلى التيمي رحمه الله: “أكثروا سؤال العافية؛ فإن المبتلى وإن اشتد بلاؤه ليس بأحق بالدعاء من المعافى الذي لا يأمن البلاء، وما المبتلَون اليوم إلا من أهل العافية بالأمس، وما المبتلون بعد اليوم إلا من أهل العافية اليوم، فما يأمن من أطال المُقام على معصية الله أن يكون قد بقي له في بقية عمره من البلاء ما يَجْهَده في الدنيا، ويفضحه في الآخرة”. وقال ابن الجوزي رحمه الله: “السعيد من ذل لله وسأل العافية، فإنه لا يوهب العافيةَ على الإطلاق، إذ لابد من بلاء، ولا يزال العاقل يسأل العافية ليتغلب على جمهور أحواله، وينبغي للإنسان أن يعلم أنه لا سبيل إلى محبوباته خالصة، ففي كل جرعة غصص، وفي كل لقمة شجًا، وعلى الحقيقة ما الصبر إلا على الأقدار، وقل أن تجري الأقدار إلا على خلاف مراد النفس، فالعاقل من دارى نفسه في الصبر بوعد الأجر، وتسهيل الأمر، ليذهب زمان البلاء سالما من شكوى، ثم يستغيث بالله تعالى سائلا العافية”. واختتم فضيلته خطبته الثانية بالتحدث عن فضل صيام شعبان فقال : جاء في الحديث عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قلتُ يا رسولَ اللهِ لم أرَك تصومُ من شهرٍ من الشُّهورِ ما تصومُ شعبانَ قال: (ذاك شهرٌ يغفُلُ النَّاسُ عنه بين رجبَ ورمضانَ وهو شهرٌ تُرفعُ فيه الأعمالُ إلى ربِّ العالمين وأُحِبُّ أن يُرفعَ عملي وأنا صائمٌ) . فها هو ذا شهر شعبان الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر فيه الصيام، معللا ذلك بأن الناس تغفل عنه. وفي هذا توجيه لنا بعدم الغفلة عن الله حينَ يغفُل الناسُ؛ فكم ممن أضاع حياته وخسر زمانه ففرط في اغتنام عمره فيما يقربه من ربه؛ مع أن الله أكرمه ونعمه ومتعه بحواسه وقُواه ورزقه العافية في جسده وسلمه مما ابتلى به غيره.
مشاركة :